أنا من كلّ البلاد… سوري وأفتخر!
نضال القادري
عدتُ لأكتب عني وعنك، ليس استرضاء لذاتي – لذاتنا. أو حتى أصون ما بقي من قلمي الذي أصيب بشظايا الحرب المدمّرة على أديم الجسد المقدّس ـ سورية. الكتابة، باسمك وعنك، علاج روحي.
أصقل في محرابك ظلالاً لبعض قامة من لغتي الضالة. أجد بك ضالتي المشتاقة، وألاقيك في زوبعتي الحسنى كلّ حب وبعث نوراني. قيل لي: ستحترق مثلما هناك البلاد تحرق أهلها، وتمّحي من ذاكرة إنسانها بالقوة الخفية. وأنا لا أتذكر أنني متّ يوماً، تنتظرني تلك البلاد، كما بقية الفدائيين، لأشعل شمعة في ظلامها الذي تسطو عليه الآلهة المتنابذة، أو بعض رسل ليس في مكنون سيرتهم سوى جثث مقطعة، وأحزمة ناسفة، وحريم بكلّ ما ملكت أيمانكم، وسكاكين مسنونة، ونار موعودة، وقل «أعوذ بالله» عندما تشتعل الحرائق! كم اشتقنا في البلاد إلى رائحة الطين – تلك التي توحدنا – نحن السوريين، بلا طوائف أو مذاهب، وأفخاذ، وأديان وقرابين!
بعد فراق قسري عن الكتابة، ربما تكسّرت بعض خباياي الجميلة كسلاً، وتلاشت في عميق الأحزان خلاياي النائمة، ولكن معك يا شفيعة الأبجديات، سنكمل طريقنا معاً برئة واحدة، مرصوفة كلّ خطواتنا بعبق الياسمين، مزدانة مع كلّ ريح ببخور المسيح. المسيح السوري الذي طرد التجار من الهيكل، توأمه على الأرض السورية ذاك المحار الذي سيخرج من صدف التاريخ، ليكتب على أسوار حدائقنا: «إنّ الحياة وقفة عز فقط». أشهد له، بأن من هنا مرت زوابعنا مزنّرة بأحلام التجدّد والقيامة، وأشهد أن من هنا قامت الريح، وتجلى المقدس اسم سورية شجراً متغاصناً مثل قامة الملائكة، وفي سيله أغرق قامات أقزام، ما تلوّث بهم، أو بمثلهم خبايا هذا التاريخ.
أن لا تكتب عن سورية، عن هواك الجميل الذي يتسرطن بك، عن وطن لا تكسر فيه محبرة واحدة دون أن تتلوثك به من كلّ صوب أنفاسُ الشهداء الخالدين! وأن تتنحّى عن إدمان الكتابة، فذلك يعني أنك تنمو على الهامش الذي لا تدوسه الملائكة بحثاً عن الله. في بلادي.
كم تمنيتُ ألا أكون مشرقياً فوق العادة، مخلصاً، محباً، مجتهداً، مؤمناً، حتى لا أُكسر! فشلت كلّ احتمالاتي. كم تمنيت ألا أكون سورياً مربكاً بأيّ شيء من نسل العروبة الفاشلة، أو ذليلاً في تنسيقيات أجنادها الضالين! أظنني على هدى العقل وقد تمرّنتْ في أديمه عضلاتي. كم تمنيت ألا أكون شهيداً و»قتيلاً»، ففي الأولى ظلم من ذوي القربى، وفي الأخرى أمسى قتلي عبادة.
أنا لا أتذكّر أنني متّ يوماً، ألا أيّها الموت تعال، اسمعني قليلاً. نا من أحفاد إيبلا والرافدين، أنا من هذا الذي تقدّس بدم الشهداء قبل أن تكون العبادات، وقبل أن تنحرنا سكاكين المذاهب المسنونة. لا مفرّ لك من الهزيمة. أنا أصيل في بلدي، كدت أصيره، كاد يصيرني، نحن صرناه روحاً واحدة تنبض بأسماء الله الحسنى، ولمجدك البلاد هذا القليل.
أيّها الموت الصحراوي: ألا يكفي القليل من العار؟ ألا يكفي القليل من العروبة؟ ألا يكفي اغتيال التاريخ؟
سجّل: أنا سوري، أنا سوري، أنا سوري. أنا من كلّ البلاد وأفتخر!