في مجرى كونشرتو الانسياق… قراءة في رواية «مصائر» لربعي المدهون
د. لؤي زيتوني
قد لا تكون غاية العمل الأدبي، مهما كان، نَيل جائزةٍ من هنا أو هناك كما قد لا تكون الحصول على مكافأةٍ مادية لأنّ هذا يجعل منه عملاً محدوداً بشروط مَن يمنح الجائزة أو المكافأة. إلّا أنّ الحصول على جائزةٍ ذات طابعٍ عالمي يثير في القرّاء فضولاً لمعرفة ماهية هذا العمل وميزاته، فضلاً عمّا يقدّمه ذلك من ترويجٍ إعلامي إضافي. أمّا أن تنال روايةٌ فلسطينيةٌ جائزةً من وزن «بوكر» فهذا ما يجعل منه مثاراً لجدالٍ وتساؤلاتٍ قد لا تنتهي. وأعني هنا، بطبيعة الحال، رواية «مصائر ـ كونشرتو الهولوكوست والنكبة» للكاتب ربعي المدهون، الحاصلة مؤخّراً على الجائز المذكورة لعام 2016.
أحداث الرواية تتوزّع على عشرة أيام داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1948، بين ثنائيين الأوّل: جولي ووليد، الفلسطيني الأصل والذي حضر من أجل إيداع رماد والدة جولي، ابنة حيفا، في أرض فلسطين. أمّا الثنائي الثّاني، جنين وباسم، المقيم داخل حيفا، في ظلّ مجاهدةٍ من أجل الصّمود والاستمرار، بعد أن إقامةٍ في خارج فلسطين.
إشكالية العنوان: المصائر وتعارضاتها
يمكننا أن نجد في العنوان حضوراً إشكالياً واضحاً، إذ يطالعنا الجزء الرئيس منه «مصائر» بأبعادٍ وجوديةٍ توحي بالنتيجة التي يؤول إليها وجود الإنسان عموماً فالمصير هاجس الوجود لدى كلّ فردٍ أو جماعة. وانطلاقاً من كون الرواية تدور أحداثها في فلسطين وحول أبنائها، فإنّ المصائر التي يشير إليها العنوان قد تكون مختصّة بالشعب الفلسطيني حصراً. وهذا الإيحاء يُبرز تمحور الأحداث حول أربعٍ من الشخصيات الفلسطينية التي تمثّل معاناة شعبٍ بكامله، وهي: جولي، وليد، جنين، وباسم.
لكنّ ورودها بصيغة الجمع يعطي المتلقّي تصوّراً بعدم الوصول إلى مصيرٍ واحدٍ مهما كان، وبالتالي فإنّ أبناء الوطن الواحد لا يملكون المصير نفسه. وإذا عكسنا ذلك على شخصيات الرواية نفسها، نلاحظ أنّ الشخصيات تتنوّع مصائرها نتيجة خياراتها. فالثنائي جولي ووليد يبحث عن خيارٍ بين العودة وبين البقاء في الخارج، والخيار الأخير هو الذي أدّى إلى توطيد العلاقة بينهما بعيداً عن الضغوط.
في حين أنّ الثنائي الثاني، جنين وباسم، كان خياره البقاء داخل الأراضي الفلسطينية، وهو ما أوصَل إلى حال من الضغط مارسها نظام الاحتلال اليهودي ضدّهما، لا سيما ضدّ باسم بينهما، إذ إنّه لم يتمكّن من الحصول على عمل، مع سعيه المستمرّ في سبيل ذلك. الأمر الذي أدّى به إلى الإقامة بعيداً عن زوجته في الضفّة الغربية من أجل الحصول على عملٍ في جامعة بير زيت، وذلك من دون الانفصال ما يعني حياةً زوجيةً غير سويّة.
والمصير المختلف يبرز كذلك في حضور الفلسطيني داخل تسلّطٍ يهودي واضح، سواء من خلال استعادة ذكرى محمود الدهمان والد جنين، الذي أصرّ على البقاء داخل أراضي فلسطين 1948، والمضايقات التي عانى منها بسبب جارته التي أحرقت بيته بحجّة هوسها من القوّات الألمانية، وهو ما لم يؤدِّ إلى أيّ ردّ فعل من قبله. ومن خلال رفض السّاكن اليهودي في الشقّة التي كان يسكنها والدا جولي من وضع تمثال جولي المملوء برمادها في المنزل، لا بل أصرّ على ضربها بالتمثال وذرّ الرماد في الهواء.
العنوان والمسارات السردية: مفهوم الكونشرتو
أمّا الجزء الفرعي من العنوان، فهو الجملة التي أضيفت إيضاحاً للمضمون ربّما: «كونشرتو الهولوكوست والنكبة». وفي هذا السياق يظهر مفهوم الكونشرتو بوصفه مفهوماً موسيقياً معروفاً يتّصف بكونه عبارة عن مقطوعة موسيقية متكاملة شديدة الانسجام والترابط، وبالتالي فإنّ ما يتمّ توقّعه في هذا السياق عناصر منسجمة ضمن هذا الكونشرتو.
وعند الدخول في عمق الرواية، يمكننا أن نجد نوعاً من المسارات الروائية التي تقودها الشخصيات بشكلٍ منفصل، لتتكامل مع تطوّر الأحداث فتتلاقى المسارات لتكوّن شكلاً من أشكال الانسجام الموسيقي. ويعزّز هذا الحضور، التقسيم الرباعي لحركات الرواية، بما يوحي التقسيمات المعمول بها في عالم الموسيقى.
نرى المسار الأوّل من تلك المسارات مع جولي ووليد. فالزوجة قد أطلق الأحداث من خلال سعيها لتنفيذ طلب والدتها «إيفانا» بوضع جزءٍ من رمادها في فلسطين، أرضها الأمّ، وبالتحديد في حيفا، وإن تعذّر ذلك بسبب الوجود اليهودي في القدس القديمة وذلك بصفتها أرمينية فلسطينية الأصل من حيفا وهذا الأمر تمّ بعدما نثر الجزء الأوّل من الرماد في نهر «التايمز» بناءً على الوصية نفسها. ويأتي تطوّر هذا المسار استناداً إلى التنقّل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1948، وما جرى من أحداث وصولاً إلى رحيلهما من مطار اللدّ وبحثهما إمكانية العودة والإقامة في فلسطين. ويأتي هذا الفعل بوصفه تأكيداً على الانتماء الفلسطيني الذي لا يمكن أن يزول حتّى بالموت، مع صعوبة هذه العودة بسبب الهيمنة اليهودية ونظرتها الإلغائية للآخر.
أمّا المسار الثاني، فيرتبط بالزوجين جنين وباسم اللذين اختارا الإقامة في فلسطين نفسها، وبالتحديد في حيفا، وذلك لأنّ جنين التي كانت كاتبةً روائية تحمل «الجنسية الإسرائيلية» بسبب بقاء والدها محمود الدهمان في فلسطين بعد النكبة. وتطوّر الأحداث هنا يشكّل عامل ضغطٍ على الزوجين، لأنّ جنين ترفض الخروج من حيفا، مقتدية بمبدأ والدها، في حين أنّ باسم عجز عن تأمين عملٍ نظراً إلى القوانين «الإسرائيلية» بوصفه من خارج تلك الأراضي، وهو الأمر الذي أشرنا إلى نتائجه باستمرار الزواج لكن على قاعدة إقامة جنين في حيفا وباسم في بير زيت في الضفّة الغربية. على أنّ الفعل الذي أصرّت عليه جنين جاء من باب الاعتراف بالوجود اليهودي وتشريعه والسعي إلى الالتحاق به من باب المواطَنة المبتورة، إذ تصرّح في معرض نقاشاتها الحادّة مع زوجها بأنّ «الجنسية الإسرائيلية» بالنسبة إليها «مواطَنة وحقوق».
والمساران يلتقيان استناداً إلى القرابة التي تربط بين وليد من جهة وجنين من جهةٍ أخرى، ونظراً إلى حضورهما داخل الجغرافيا الواحدة، ما أتاح إلقاء الضوء على مسار ثالث استرجاعي يتعلّق بمحمود دهمان والد جنين. فتتّضح لنا عملية عودته إلى المجدل ـ عسقلان أثناء النكبة بعدما كان خرج مع عائلته إلى غزّة، بينما بقيت عائلته هناك، ما دفعه إلى الزّواج من جديد، والصمود مع كلّ الضغوط التي واجهها إلى درجة أنّ ابنته في روايتها عنه، أطلقت عليه لقب «باقٍ هناك».
وفي الخلاصة، تجتمع هذه المسارات لتشكّل وحدةً متماسكةً تحاول أن تقدّم واقع حياة الفلسطيني من وجهة نظرٍ محدّدة خاصة بربعي المدهون.
جدلية العنوان: تناقض الكونشرتو
وهنا تكمن الجدلية التي يقدّمها لنا العنوان، موحيةً بجدلية الرواية نفسها. فمع أنّ المسارات السردية تشكّل كونشرتو متناغماً، غير أنّ عنصريها داخل العنوان كانا «الهولوكوست» من جهة بما تعنيه من استحضارٍ لذريعةٍ يهودية تُبرّر الحصول على دولةٍ فوق الأرض الفلسطينية، بناءً على الوعد المشؤوم الذي أطلقه بلفور، وإنفاذاً لمقرّرات المؤتمر اليهودي الأوّل عام 1897. ومن جهةٍ أخرى يأتي عنصر «النكبة» الذي شكّل أدنى دركٍ في حياة هذه الأمّة ومصيرها الثقافي والحضاري، لا السياسي والعسكري فحسب.
بطبيعة الحال، يمكننا أن نجد مفاعيل النكبة واضحةً من خلال تشتّت عائلة الدهمان، وهو الأمر الذي تقدّمه لنا شخصية جنين عبر روايتها التي تكتبها عنه، والتي تشكّل تيار وعيٍ يتمثّل في استعادة حضور محمود داخل أراضي 1948، بينما قسمٌ من عائلته في مخيمات غزّة، أو في بلاد الاغتراب.
فضلاً عن ذلك، يُسلَّط الضوء على مجزرة «دير ياسين» وغيرها في مواضع عدّة من الرواية، إذ يحيلنا تيار الوعي من جديد، حينما كان وليد يبحث عن موقع البلدة، إلى استرجاع مجريات أحداثها على نحوٍ شديد التأثير. إضافةً إلى إيرادها في معرض الحوار بين وليد وسلمان لإبراز هول المجزرة ووجهة نظر أحد «اليساريين الإسرائيليين»، إيتون بروبنشتاين النقدية لها. وقد يكون في إيراد هذه الوجهة نوعاً من تقديم صورةٍ مغايرةٍ لـ«الإسرائيلي»، أو على الأقلّ لمجموعةٍ سياسيةٍ منهم.
ولعلّ في تقديم صورة المليونير اليهودي مارك روزنبلوم صورة أخرى أكثر إيجابيةً، لكونه ظهر منفتحاً يستقبل الفلسطينيين في منزلٍ يافاوي قديم يجعله ملتقى الفنّانين قد اشترى حقّ الإقامة فيه لمدة 99 سنة، محاولة لتوسيع دائرة تلك الصورة. لكنّ في إيراد هذه الشخصية، عن قصدٍ أو غير قصد، إشارة إلى مفاعيل النكبة نفسها، إذ إنّ اليهودي صار يستطيع التحكّم في هذه البيوت التي لم يبنِها ولم يملكها، في حين أنّ الفلسطيني لا يملك سوى الرجوع إلى «الإسرائيلي» حتّى يستطيع الدخول إليها.
من ناحيةٍ أخرى، نلاحظ صورة «الهولوكوست» تظهر في مواضع عدّة من الرواية، لا سيما في موضعين: أوّلهما مع شخصية «أفيفا» جارة محمود أو «باقٍ هناك»، اليهودية الأوكرانية التي سوّغ لها كلّ ما فعلته به، خصوصاً حرق منزله، تحت ذريعة معاناتها من الاضطهاد الهتلري أو «الهولوكوست». ولكنّ التساؤل الذي يطرح نفسه: هل هذا التسويغ مقبول ومبرّر؟ أقصد أن يصبح الضحية غافراً لقاتله لأنّه ضحية قاتل آخر؟
الإشارة الأخرى تأتي عند إصرار شخصية وليد على زيارة متحف «الهولوكوست» في القدس، حيث كان حزنه على «ضحايا اليهود» مساوياً لحزنه على الضحايا الفلسطينيين من جرّاء المجازر اليهودية، وفي ذلك الموقف الذي أراد الكاتب أن يكون إنسانياً، إضعافٌ لعمق المعاناة التي عاناها الفلسطيني لأنّها تقدّم مساواةً بين الجلّاد والضحية بالتعبير المألوف.
ويأتي السعي إلى الربط بين الحدثين في مشهد الرّؤيا التي عاشها وليد بعدما زار المتحف، إذ حلم بمتحفٍ آخر للتاريخ الفلسطيني ومراحل المعاناة فيه، إذ ترشده امرأة يهودية تدعى «تالا رابينوفيتش» إلى هذا المتحف الذي يسوده التسامح والذي بُنِي بعد «مصالحةٍ بين الشعبين الفلسطيني واليهودي» أبرزت «مجتمعاً نموذجياً» على الطريقة السويسرية، حيث تعترف كلّ قوميةٍ بالأخرى وبتمايزاتها. ولا شكّ في أنّ هذه الرّؤيا تسعى لأن تكون واقعاً يحلم به بعض الفلسطينيين اليوم، لكونهم يرون أنه الخلاص الوحيد.
الخلاصة
استنتاجاً ممّا تقدّم، يمكننا القول إنّ رواية «مصائر» بسيمائية عنوانه قد أعطت صورةً واضحةً عن المغزى الذي يعمل الكاتب على إبرازه، كما شكّلت إيحاءً بأنّها من الروايات المميزة أسلوبياً. ففي هذا المجال، نلاحظ البناء المتماسك الذي تقوم عليه الرواية، إضافةً إلى أسلوب التداعي الحرّ الذي أتقنه الكاتب بما يتضمّنه من تقنيات الاسترجاع والاستشراف والوصف، إلى جانب التحكّم بتسارع الإيقاع الخاص بالسياق العام للأحداث، وهذا كلّه يحتاج إلى درس متأنٍّ لا قدرة لنا هنا على تناوله بالتفصيل.
لكن، ما لا بدّ من الإشارة إليه هنا، المنظور الذي انطلق منه الكاتب، فهو سعى إلى الربط، ابتداءً من العنوان بين حدثين اثنين يعدّان تاريخيين: الأوّل «الهولوكوست» التي بَرّرت قيام ما يسمّى «دولة إسرائيل» فوق أرض فلسطين، وارتكاب المزيد من الاضطهاد والمجازر في كلّ لحظة تحت عنوان «العداء لشعب الله المختار»، والتي ما زلنا ندفع ثمنها منذ 67 سنة، مع أنّنا لسنا مسؤولين بأيّ شكلٍ من الأشكال عنها، ومع تشكيك كثيرين من الباحثين في صحة هذه الحادثة، وبينهم يهود.
أمّا الحدث الثاني، وأعني النكبة، وهو الحدث الذي لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه، والذي شرّد شعباً بكامله وما يزال، وقدّمه ضحيةً «مشروعةً» من دون محاسبةٍ أو رقيب. لذلك نسأل: أيّ مواطَنةٍ ننشد من قاتلٍ سفّاح؟ وأيّ إنسانيةٍ نبرّر بها قتل أبناء شعبنا؟ وأيّ إنسانيةٍ تجعل من مثقّفي اليهود ودعاة السلام المزعوم يقيمون في أرضٍ ليست لهم وفي مُلكٍ اغتصبوه من أصحابه؟ وأيّ شرعيةٍ لكيانٍ كاملٍ، بكلّ أفراده وتفاصيله، لا يعترف بشعبنا؟
رواية «مصائر»، عملٌ جيد من الناحية الفنية، لكنّ نيله جائزةً عالمية يقيمها أصحاب ميولٍ سياسيةٍ، ومع احترامنا الشديد لكاتبها المدهون على قلمه المتقن والمتماسك، لا يمكن أن تنعزل عن سياقٍ عامّ يسعى إلى تسويق تطبيعٍ مقنّعٍ بشكلٍ أو بآخر. فالأدب لا يمكن أن يتّخذ من الجائزة غايةً له، لأنّ غايته تتعدّى ذلك لتكون عِبرةً للأجيال، وسجلّاً لقيمها وأصالتها، عنصراً من عناصر تخليد بلاده أمّة مستقلّةً تأبى القبر مكاناً لها تحت الشمس، وتأبى الذلّ سبيلاً لبقائها.