«يلّا عقبالكن»… إشكالية السينما ضمن شريط هجين
جهاد أيوب
عرضت قناة «mtv» شريطاً فنّياً قيل إنه يندرج ضمن الأفلام السينمائية. وحقيقةً، هو تجميع مشاهد مركّبة بطريقة سطحية، سمّوه «يلّا عقبالكن»، بحجّة الكوميديا الاجتماعية. وهو من بطولة دارين حمزة، جوليا قصار، ندى أبو فرحات، بديع أبو شقرا، مروى خليل، شربل زيادة، ماريو باسيل، أيمن قيسوني، ويارا أبي حيدر. وكتبت قصّته وشاركت في التمثيل، كما أنتجت الفيلم نيبال عرقجي، وأخرجه إيلي خليفة، وهو من إنتاج عام 2015.
يتحدّث الشريط المقتبس عن السلسلة الأميركية «sex and the city» خلال ساعة وأربعين دقيقة، عن قصة أربع نساء شارفن على سنّ الأربعين، ولم يتزوّجن بعد، ورغم تحقيقهن النجاح في حياتهن العملية، إلا أن الزواج والعلاقة مع الرجل كانا هدفهن الأساس.
يطرح «يلّا عقبالكن» إشكالية كبيرة لدور الفنّ ووجوده وكيفية التعامل معه. وسبب صناعة كاميرا تلتقط المشاهد والمارة والناس والطبيعة من دون هدف، ولماذا نُفّذ أصلاً هذا العمل، ولماذا استسهال فعل السينما؟
لا خلاف في أن وسائل التعبير كثيرة، ويحقّ لكلّ فرد أن يختار ما يناسبه من أجل إيصال صوته وفكرته ورأيه ورفضه. ولكن، في زمن العلم والتخصّص، والثقافة الاستهلاكية السريعة والمنتشرة، لا يجوز الارتجال في الفّن بحجّة الحرّية. وزمن الاستخفاف بالمشاهد الذي كان يُفرض عليه الفنّ فرضاً لم يعد مجدياً. فالاختيارات كثيرة، وإبداء الرأي أصبح سهلاً كاستسهال تنفيذ هذا الشريط العجيب.
بعد مشاهدة «يلّا عقبالكن»، لا بدّ من بعض الأسئلة التي تُطرح بتجرّد: هل يصلح للسينما؟ وهل يجوز أن نقول إنه سينما لكونه صُوّر بكاميرا؟ ما المقصود من هذا الحشو في مشاهد هجينة؟
العمل لا يصلح للشاشة الكبيرة، ولا للصغيرة، وهنا القصّ والإلغاء والمونتاج أصبح واجباً حفاظاً على ما تبقّى من فنّ. وكي لا نظلم جهود فريق العمل، نشير إلى أنّ هذا الشريط يصلح لأن يُقدَّم كمشروع حرّ من طلاب الثانوية أو سنة أولى جامعة اختصاص علم نفس، لا طلاب كلّية الفنون.
من غرائب هذا العمل، ارتجال فعل التمثيل، وكأننا أما مجموعة تتدرّب في غرفة مفتوحة على عمل مسرحيّ لا أكثر. لذلك، جُمعت بعض الوجوه المعروفة وغير المعروفة لتقف أمام كاميرا لا تنطق، بل تلتقط الجمود وما يدور حوله من دون هدف يُثري المتلقّي، أو يترك له لحظة ليتأمل أو ليفرح. لذلك، كان أقرب إلى تجميع أوراق متناثرة حافظت على تناثرها في شريط مصوّر.
لعبت دارين حمزة دور «ياسمينا» بخبرة لافتة، تعرّفت إلى ماهية الدور وأبعاده رغم قُصر مشاهدها ولكنّها رئيسة.
داربن تؤدّي بإتقان مقنع، ولكن هذا لا يكفي لإنجاح العمل. فزمن الفنان المطلق انتهى، وعدم استيعاب بعض مَن شاركها التمثيل لأدوارهم قلّل من شأن حماستها وحركتها. وضعف أداء من حولها في مشاهد جمعتها معهم أفقر المشهد، وكانوا مجرّد «كومبارس» يؤدّون بلا روح، فظهرت حمزة كأنها تعزف منفردة.
القديرة جوليا قصار صدمة الشريط، تتصنّع الهلوسات التمثيلية، والأداء والحوار والمشهد، وللمرّة الأولى أجدها تتعمّد التمثيل كرفع عتب، ولو كنتُ لا أعرف إمكانياتها المهمة، لقلت: مَن تكون هذه الممثلة المبتدئة؟
ندى أبو فرحات تحاول، ولكنّها منذ المشهد الأول إلى لقطاتها الأخيرة تائهة. لم تتعرّف إلى شخصية الدور الذي تلعبه، ولا مَن يوجّهها أو يشير إلى طبيعة حركتها، فمرّت دونما تأثير.
الذين أدّوا أدوار الأطباء غير مقنعين، ولا يحق إقحامهم كما لو كنّا في اختبار اختيار «كومبارس».
بديع أبو شقرا صاحب الإمكانيات العالية، هنا مجرّد حضور لا يحسب له، ونيبال عرقجي شخصية محبّبة وقريبة أدّت قدر المستطاع، تبشّر بممثلة ناعمة وجيدة لو أتاح لها المخرج الفاهم طبيعة تعدّد الشخصيات في شريطه، ولو كُتب لها النصّ العميق الذي يبرز تداعيات البعد الدراميّ لكلّ شخصية، لا أن تبقى كرتونية على الورق.
ماريو باسيل لا يعرف التمثيل ولا الوقوف أمام كاميرا جادّة، بعيداً عمّا يقدّمه في المطاعم وغُرف «الشو» من صراخ وضحكات غير مبرّرة وإيحاءات جنسية بحجّة حرّية التمثيل المنفلت إلى الأعمال الماجنة.
أما باقي المشاركين، فكان التمثيل لديهم ضيّق الأفق بقدر النص الفقير للعبة الدراما، رغم أن شخوصه واقعية وحاضرة أمامنا يومياً. لذلك، كان يمكن درسها بعمق أكثر ممّا جاءت عليه من سطحية تعتمد على الصورة من دون أيّ تأثير.
رُكّب الشريط الفنّي من خلال تشتّت أفكار مجمّعة من قصاصات الصحف، أو «سوالف» بعض من يجلس في المقهى ليتسلّى، ومركّبة على مشاهد مفبركة بحوارات غاية في السطحية، وبالكتابة الارتجالية التي توصل إلى معادلتين، الأولى استغباء المشاهد، والثانية استغباء فعل الكتابة.
وللأسف، هذه الحالة تحاصر غالبية ما يقدّمه شباب السينما اللبنانية المعترضون على نتاجات من سبقهم، شباب تعلّموا الفنّ في أهمّ المعاهد والجامعات، والنتيجة تنظير وهلوسات تنقصها الرؤية والموهبة.
نقول هذا الكلام بعد مشاهداتنا عشرات الإنتاجات السينمائية الشابة، وكنا نعوّل عليها الكثير، وأنها ستُحدث انقلاباً على ما كان سائداً لكونها خرجت من كميات كبيرة من الحروب والصراعات الحزبية والسياسية والاجتماعية والفكرية. وإذ بها تهرب إلى الفراغ، والضياع، والرفص.
سيناريو «يلّا عقبالكن» متناثر لأوراق طائرة في فضاء الفراغ السينمائي بشكل هجين تأليفياً. ربما قصدت الكاتبة التواصل مع الناس ببساطة عابها عدم الخبرة، وغياب فهم أن الواقع لا ينقل إنشائياً بل توضب له رؤية تحدث صدمة، والصدمة تولّد فكرة، والفكرة توضع بشكل فنّي أنيق حتى تحرّك ذهن المتلقّي بعيداً عن لغة مباشرة بوقاحتها وإسفافها، أو ببساطتها لكونها لا تملك أدوات التواصل في عالم الفنّ السابع.
«يلّا عقبالكن» اعتمد على ألفاظ سوقية تقال في الشارع، وفي يوميات البعض، وقد نسمعها ونحن نسير في شوارع المدينة، ولكننا حينما نتعمّد أن نصوّرها وننفّذها بالفنّ تصبح خطأ، وفقراً في ابتكار المعالجات الدرامية. وإلا، فلنُنزل الكاميرا إلى الشارع، ونصوّر ما يقوله الناس علناً، ونقول هذا هو فنّ واقعنا، وهذه أفلام الواقع، عندئذٍ نكون قد شاركنا بالفراغ والتسطيح والتخدير.
ولنتفق على أن ما جاء على لسان الممثلين من كلام بذيء هو حقائق، و«نطنّش» عن دور المبدع والواقعية والعفوية، ونمرّرها كلّها بحجة التجديد واستخدام الحرية المطلقة، مع أن الحرية مسؤولية، إنّما لا تُقحم هكذا، أي تُشغّل بـ«عباطة» الحشو الكلامي لنعطي مصداقية للمشهد المقحم أصلاً من دون هدف، ومن دون أبعاد درامية، ولا تنفّذ بهذا الأسلوب العشوائي، ولا توضع في سيناريو قصير لا روح فيه.
المخراج إيلي خليفة قصد عدم الحشو الكلامي والحوار السريع والقصير وسرعة الاحداث، هذا كان واضحاً، ولكن غياب الرؤية التنفيذية، وإن قصدها بخطته التي أشرت إليها لم نشعر بها، ولم تصلنا بالمطلق.
اليوم، لم يعد إيجاد الرؤية معضلة، فالأصول أن تكون من واجبات الإخراج، ولكن كيفية تنفيذ الرؤية هي الأساس، وهي عمق المعضلة، وهذا ما يعانيه الإخراج الدرامي في لبنان ومصر.
لا رؤية إخراجية في «يلّا عقبالكن»، بل يعتمد على التصوير الجيد فقط، ولا يتحمّل النقد الأكاديمي والفني. صورة جميلة، وموفقة في اختيار أماكن التصوير، وحركة جيدة في التقاط الكاميرا تمهّد لانطلاقة المشهد، وفجأة تختلف الأمور، ونُصدم، فما نشاهده لا علاقة له بتركيبة السيناريو الذي أمامنا، وتتابع الاحداث، واللقطة المشهدية الأولى ليصبح المشهد يتيماً، والتصوير فقيراً.
غالبية المشاهد نهارية، أو تعتمد على إضاءة مسطحة لا مجال للعبة الضوء، ورغم أن الحبكة تتطلب بعداً تأثيرياً يرافق المشهد والموسيقى، إلا أن ما وصل كان منهكاً لا يصح فيه أن المخرج يفقه بالمجاميع بعيداً عن الممثل دون محيطه.
لا نستطيع اعتبار ما شاهدناه ينتمي إلى عالم السينما، هو تجميع مشاهد من هنا وهناك، وأجمل ما في الفيلم ما عرض من مشاهد بعد نهايته، أحداث وقعت خلال التصوير، أي التقاط مشاهد عفوية غير متعمدة أو متصنّعة، ولو جمعت وعرضت كأساس للعمل لكنّا شاهدنا فيلماً كوميدياً جميلاً.