«رسائل الكرز»… معادل بصريّ تجاوز كلاسيكية المشهد السينمائيّ
الياس الحاج
قبل نحو أربع سنوات، وشغفي يلاحقني لأن أبصر فيلم «رسائل الكرز»، سيناريو وإخراج سلاف فواخرجي، صاحبة البصيرة المختلفة في محاكاتها وانتقائيتها الموضوعات ذات الطابع الشاعري الإنساني، وهي التي أكدت مراراً في خيارتها كنجمة أولى للأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية، انتماءها إلى الأرض السورية والشعب الطاهر الصادق أولاً وأخيراً.
وقبل الحديث عن الفيلم الذي حصد عدداً من الجوائز الهامة الأولى وكُرّم في محافل عربية ودولية استحقها صنّاعه، ننوّه بأنه استحق جائزة أحسن فيلم، العمل الأوّل ضمن منافسات مسابقة الراحل نور الشريف للفيلم العربي إحدى المسابقات الرسمية الست للدورة الحادية والثلاثين من مهرجان الاسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط مصر 2015، كما حصلت عنه الفنانة سلاف على جائزة أفضل مخرج في المهرجان ذاته، وجائزة الجمهور في مهرجان عنّابة للفيلم المتوسطي ـ الجزائر 2015، وجائزة الأرزة اللبنانية من المهرجان اللبناني للسينما والتلفزيون ـ بيروت لبنان 2016، وجائزة خاصة من مهرجان صادق العلي الأول للأفلام الروائية الطويلة ـ بغداد العراق 2016، وجائزة مهرجان الخرطوم للفيلم العربي ـ السودان 2016. وقد أُطلق مؤخراً ليعرض جماهيرياً في عدد من المحافظات السورية فشاهدناه ليلة 20/10/2016 في «دار الأسد للثقافة والفنون» في اللاذقية، بحضور حشود من الجمهور المشهود له عشقه الإبداعَ السوري، بما يؤكد دائماً أن سورية ليست فقط عصيّة على العدوان، بل أنها الأجمل أبداً لحياة يستحقها السوريون امتداداً لبعل، أبجدية النور «أوغاريت»، وهو التحدّي الأكبر لكتابة رسائل انتصار من دم وحياة.
وكما كُتبت رسائل الحبّ بحبر «كرز الجولان»، تكتب رهافة الخبيرة سلاف فواخرجي قصيدتها النثرية البصرية بلغتها الشاعرية المنسوجة من حبر أوردة الأرض وشرايين خافقها، محلّقة مع حمامة الحبّ والسلام نحو مدى «وجع الحبّ في أزمنة الحرب»، فتحكي بلغة حسّية آسرة في نقلاتها الزمانية والمكانية، والساحرة في عمق دلالاتها، قصة رسالتها للعشق الجولاني، والتي لن تكتمل قبل تحرير جولاننا من دنس العدوان الصهيونيّ.
وتمضي سنوات طرقات خافق الوفاء بين العاشق والمعشوقة، بين هوية الحبّ وانتماء الأرض ورفض كلّ ما يفكّك رسالة العشق لشعب لم يعرف سوى الصمود. رسالة قلب يسكنه فقط شريان الصدق للهوية السورية.
هذا ما حققه فريق الفيلم لتقود السورية بامتياز سلاف سمفونية بصرية موسيقية تكسر بشاعريتها المكثّفة تلك القوالب الكلاسيكية الحكائية السردية، والتي كرّرتها السينما والدراما التلفزيونية في الأعمال التاريخية المعاصرة، مبتعدة عن الإنشائية المباشرة، معتمدة التغريب في بساطة الدلالة السمعية والبصرية الجمالية، والبعيدة أيضاً عن الخطابية والاستعراضية المشهدية. فبدت درامتيكية حميمية بل حنوناً في صدقيتها الأكثر من عفوية، فيما تلوّن بحبر الجولان «الكرز»، تماهي خطوطها البيانية التصاعدية عبر تاريخ حافل بالأحداث المصيرية، والتي تمازج فيها حبر جسد الأرض المغتصبة بـ«الدم السوري»، فتعبّر رؤى الفيلم في تتابعية يسمع صداه مع بحة الناي، ذاكرة قوة الحبّ والبصيرة لأعمى المواجهة لآلة الحرب الصهيونية عبر تاريخنا المعاصر، مسطّرة الصورة الإنسانية رسائلها الجمالية في مشهديات توجزة مراحل تعود بنا إلى الاستقلال، ثم مروراً بنكسة حزيران، إلى همس المقاتل الشجاع، رسالة لأمه أنه يستقبل الشهادة من دون خوف، في انتصار حرب تشرين ورفع العلم السوري فوق هضبة القنيطرة، وصولاً إلى ما فرضته الحرب الإرهابية على بلدنا من حواجز تفتيش لحفظ أمان المواطنين وسلامتهم. وانتهاءً بالتحدّي لنزف الدم عبر وجع السنين لاختراق الأسلاك الشائكة.
وللبحث الأعمق في الجانب الفنّي، يمكن أن نسهب فنستغرق طويلاً في التحليل والتشريح لأهمية ما جاء في صناعة المشهد السينمائي غير التقليدي بل في تحقيق معادل بصري تجاوز كلاسيكية المشهد السينمائي في تجربة إخراجية أولى لنجمة أولى في عالم التمثيل. غير أننا نختصر المعنى في ما حقّقته رؤى الإخراج من تجاوزات لمعوقات قد تكون معطّلة في ظروف ما تمرّ به بلادنا، وقد تعيق إنجاز الكثير من الرؤى الإبداعية في مواقع صوّرت فيها أحداث تقترب من الملحمية البصرية. وهنا يكمن جوهر ما قدّمه الفيلم من بصيرة قيمية لمشهديات مبدعة في هدوء اللحظات الرومنسية والمدهشة في انقلاباتاها الحدثية في ذروات صنعتها حركة الكاميرا للمواقع والشخصيات ومؤثراتها المبتكرة في اختزالاتها الإيقاعية، فنسجت في تكويانتها جماليات مشدودة الإحساس لأكثر من طبيعة لونية في تعدّد لونيات أمكنتها، المتزامنة بين الداخلية والخارجي، وامتداد تسارع العجلة الزمنية وهي تدور في رحى الأوردة المدمّاة في عناقيد الكرز الممتدة من فلسطين إلى الجولان، وصولاً إلى نزف الجرح لتحقيق الحلم وتجاوز تلك الأسلاك الشائكة الفاصلة بين البيت «قطعة من وطن مغتصب» والقلب «القرار المؤجّل». كما تستحق الإشارة إلى تشكيلية البيت الرئيس واختياره الصعب وما حقّقته كاميرا المخرجة من تفاعل شاعري موجع في صمت لوحاته وحركتها، وكأنها تتأثر وتؤثر في وجدان ونبض كل دلالة جديدة تنتقل معها الأحداث المتشابكة حيناً والمتوازية أحياناً والمتسارعة غالباً بين المساحات الواسعة في مدى السهول والجبال والوديان، وحركة نزوح الحياة في الريف الجولاني والمدينة القديمة وما نعيشه اليوم في علاقة تاريخية وطنية ولدت مع الاستقلال وزرعت في أرض الجولان، ثم نبتت مع الحبّ الرمز الأعمق للمفهوم الإنساني الوطني في تسلسل تاريخ الفيلم.
لعلّ خيارات الفيلم لمواقعه وشخصياته لم تكن أمراً سهلاً لعمل احتاج إلى مرور أزمنة متباعدة جسّد مشاهدها برهافة صادقة عفوية للنجمين محمود نصر ودانا مارديني، والنجوم في مشاهدهم بمفردات أدواتهم: باسل حيدر، ناصر مرقبي، جيرار أغباشيان، وجدي عبيدو، وعماد السمان، بالاشتراك مع الكبار: غسان مسعود، جيانا عيد، وأنطوانيت نجيب، وضيفة الشرف الأستاذة الأديبة ابتسام أديب في شخصية امرأة جولانية، والطفل الأجمل علي وائل رمضان.