ينحني الجذع لإزميل النحّات فيولد التعبير ويتشكّل

طرطوس ـ رزان عمران

التناغم بين الحجر الرملي الأصفر لواجهة طرطوس القديمة وخامات الخشب أول ما يستوقف زائر ملتقى النحت على الخشب في مدينة طرطوس، على وقع صوت المنشار تتخلله أصوات بلهجات مختلفة لا يمكن معها إلاّ أن تتذكر سورية الأجمل التي تتجاوز كونها مجرد شعار للملتقى.

في الساحة الخارجية لصالة المعارض القديمة، قبالة الكورنيش البحري، تتناثر جذوع أشجار الكينا والصنوبر بين أيادي اثني عشر نحاتاً من طرطوس ودمشق ودير الزور وحمص واللاذقية والسويداء، وقد شرعوا في أول أيام الملتقى في تشكيل منحوتات تعرض في ختام الحدث الذي يعد الأول من نوعه على صعيد دعوة نحاتين محترفين من المحافظات ليمارسوا العمل في الهواء الطلق وفي أحد أعرق الأماكن.

يرى مدير الملتقى النحات عماد الدين كسحوت من دمشق أن تحقيق حضور نوعي من ست محافظات إلى الملتقى في الظروف الراهنة يمثل إنجازاً مهماً يعيد تأكيد دور الفنان السوري الصامد وسط أقسى الظروف الحياتية التي طالت الفن بآثارها السلبية مثل سائر المجالات الأخرى، مشيراً إلى نجاح التعاون بين وزارة الثقافة والقطاع الخاص ممثلاً بشركة «إنترادوس للتطوير السياحي» لإقامة الفعالية بدرجة عالية من التنظيم وتأمين الأدوات اللازمة للنحت.

يشير كسحوت إلى أهمية حضور سبعة شبان وشابات من الخريجين الجدد من المعهد التقني للفنون التطبيقية وكلية الفنون الجميلة ليطلعوا مباشرة على العمل الاحترافي ويساعدوا أصحابه ويضعوا لمساتهم الخاصة، ما يُعتبر تشجيعاً للشبّان، داعياً إلى مزيد من الاهتمام بالدعاية للملتقى، فالإعلام يبقى صلة الوصل الأساسية بين الفنان والجمهور.

يلفت النحات علي سليمان من محافظة طرطوس إلى أن أهم ميزة للملتقى نقله العمل النحتي من الصالونات، حيث الجمهور النخبوي، إلى الشارع ليكون مادة بصرية متاحة للجميع ترتقي بذائقتهم، موضحاً أن هذه الثقافة لم يتم تثبيتها بعد في المجتمع، علماً أن مجلس مدينة طرطوس دأب لفترة على إشراك الفنانين التشكيليين في اجتماعاته لإبداء الرأي في المشاريع ذات الصلة بالمظهر العام للمدينة، إلاّ أن هذا الاتجاه لم يستمر ويا للأسف بسبب تعارض الرأي الفني أحياناً مع مصالح الأطراف القائمة على هذا المشروع أو ذاك.

من ناحيته، يركز النحات علاء محمد من طرطوس في منحوتته على الوجوه السورية المعاصرة والتغيرات النفسية التي أصابت السوريين خلال الأزمة، إذ يرى محمد أن أهمية الفنان تكمن في معاصرته الحوادث وتوثيقه لها بكل تقلباتها وآثارها، مشيراً إلى أهمية أن تستقطب الملتقيات المقبلة فنانين من خارج سورية، ما يساهم في الحوار والتفاعل وانتقال الخبرات.

يخالف النحات أنور رشيد من السويداء هذا الرأي، معتبراً أن على الفنانين السوريين التركيز خلال الأزمة وما بعدها على الحوار في ما بينهم، مؤكداً أنهم قادرون من همومهم المشتركة على صوغ خبرة فنية سورية موحدة تضاهي خبرات أعرق الفنانين الغربيين. ويشير إلى أن الملتقى ساهم إلى حد كبير في إخراج الفنانين المشاركين من جو السوداوية ودخولهم حالة من التفاؤل ساهمت فيها الإطلالة البحرية وجو المدينة القديمة والهدوء، ما جعله يختار الأسلوب التعبيري في تمثيل المرأة بعمله النحتي، لغنى عالمها بالمشاعر والتناقضات.

من البحر استوحى رئيس قسم النحت في كلية الفنون الجميلة في دمشق الدكتور إحسان العر منحوتته المتموّجة على شكل حلقات تنطق بالموسيقى، بحسب ما أوضح، مشيراً إلى أن النحت في الهواء الطلق يثير فضول المارة ورغبتهم في الإطلاع عن قرب على مراحل إنتاج المنحوتة بدلاً من رؤيتها جاهزة، ما ينعكس إيجاباً، خاصة على الأطفال.

يلفت العرّ إلى ما يتميز به خشب الكينا من لون بني مائل إلى الوردي، ما يغني عن طلائه إذ لا يحتاج إلا إلى مواد تحفظه من عوامل الطبيعة، مؤكداً أهمية أن يحقق الفنان في عمله النحتي شرط الغنى في التكوين وإيلاء الفراغ كامل الاهتمام بكونه مساوياً للكتلة لناحية القيمة الفنية، مع ضرورة أخذ رأي الفنان في طريقة عرض منحوتته ومكانها.

اختار الفنان هشام الغدو من دير الزور التآلف مع البيئة المحيطة بهذا المحترف النحتي المكشوف، فاستحضر حورية البحر موضوعاً للمنحوتة، مشيراً إلى ضرورة تكرار مثل هذه الملتقيات لتثقيف العامة فنياً وجمالياً وإلغاء الحاجز النفسي الذى قد يشعر به كثر إزاء الفن التشكيلي بوصفه إنتاجاً إبداعياً قابلاً لعدة تأويلات.

بعد تركيز على أخشاب السنديان والصنوبر يجرب النحات وائل دهان للمرة الأولى خشب الكينا لتشكيل موضوعه المفضل المستمد من دمشق التي يراها امرأة ذات ألوان السماء لا تتغير مهما تبدلت حولها الظروف، موضحاً أن الملتقى خير دليل على أن الاهتمام بدعم الفن ازداد خلال الأزمة كوسيلة لإثبات القدرة على الحياة .

يجسد النحات غازي كاسوح من طرطوس فكرة مماثلة في منحوتته التي أراد بها التعبير عن عائلة سورية يتعاون أفرادها على النهوض في مواجهة ثقافة الموت، مشيراً إلى أن مجرد إقامة الملتقى بهذا العدد الذي حاول تمثيل أكبر عدد ممكن من المحافظات في ظروف صعبة إنجاز كبير وتحد ناجح لكثير من المعوقات، متمنياً تكرار الملتقى وتنويع خيارات الأخشاب فيه، وفقاً لذائقة كل فنان وفكرته.

يوضح الفنان علي بهاء معلا الذي مارس النحت طوال ثلاثين سنة على معظم أنواع الأخشاب في الساحل السوري أن وزارة الثقافة استطاعت ربما تأمين النوعين الأكثر توافراً في الفترة الراهنة، ما يعني شيئاً من تقييد الفنان واختبار قدرته على الإبداع أياً يكن نوع ومستوى الأدوات المستخدمة، مشيراً إلى أن قطعة خشب الكينا التي حصل عليها تبدو مناسبة لاختياره تشكيل كلمة سورية بأحرف متداخلة وطريقة فنية جذابة.

يبدو النحات أكسم السلوم من حمص مختلفاً عن باقي المشاركين في اختياره خشب الصنوبر للمرة الأولى بعد العمل لسنوات في تشكيل خشب الدلب والتوت البري والكينا، إذ يرى أن على النحات أن يجرب الجديد دوماً ويختبر قدرته على بث الروح في الخشب أياً يكن نوعه ومهما يكن مستوى الأدوات المستخدمة في العمل. ويفضل السلوم عدم تسمية منحوتته تاركا للمتلقي فهمها والحكم عليها عبر ما يتخيله فيها، لافتاً إلى أنه سيشرف على ملتقى للنحت على الحجر سيقام بعد هذا الملتقى مباشرة في محافظة طرطوس أيضاً.

من اللاذقية شاء النحات محمد بعجانو التمسك برموز البحر، فاختار نحت نورس غير مهاجر من خشب الكينا، معتبراً أن جودة المنحوتة تكمن في سرعة إعجاب المشاهد بها خلال الثواني الأولى من النظر إليها. ويرى أن الملتقى يوفر فرصة نادرة للتلاقي والتواصل بين أهل البيت الفني السوري، معرباً عن أمله في استمرار إيمان الفعاليات الاقتصادية الخاصة بمثل هذه التظاهرات الفنية لدعمها وإدراك أهميتها في تطوير سوية الذوق الفني للجمهور.

خلال استغراق النحاتين الكبار في العمل، يتوزع الفنانون المتخرجون حديثاً من معاهدهم وكلياتهم لمراقبة العمل ومساعدة الفنانين في التقاط الأدوات واستكمال بعض أجزاء العمل خلال الاستراحة، الأمر الذي تراه الفنانة الشابة حنان الحاج محفزاً وممتعاً، مشيرة إلى أنها شاركت قبل تخرجها من المعهد التقني للفنون التطبيقية في العديد من الملتقيات، خاصة في دمشق، إلا أن زيارة طرطوس والأمان الذي تنعم به والتعرف إلى نحاتين من عدة محافظات أضاف إليها مزيداً من الخبرة النوعية وحب العمل.

زميلتها يارا المشوالي تعبّر عن اعتزازها بدعوتها إلى الملتقى كمساعدة للنحاتين، معتبرة أن سورية تحتاج إلى مثل هذه الملتقيات التي تضم أشخاصاً من بيئات مختلفة ومدارس متنوعة توحّدهم قدرة فريدة على بث الحياة في خامات الخشب.

عبد الستار عزوز، أحد زوار الملتقى، يعبّر عن حجم سعادته بما يراه من عمل احترافي يذكره بورشته للحفر على الخشب في مدينة حلب، معرباً عن أمله في العودة وإحياء عمله الذي ورثه عن أبيه وجده مهما طال الزمن.

«سانا»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى