ماذا بعد مشروع كيري؟

د. إبراهيم علوش

«التفاوض على التفاوض»، مقارنة بالتفاوض لأجل التفاوض، هو الدرك الأسفل الذي وصلت إليه «العملية السلمية» بعدما تهادت من حضيض إلى حضيض على منحدرات مشروع التسوية، فما تناقلته وسائل الإعلام حول تطورات خطيرة جداً في المسيرة التفاوضية ليست سوى فصولٍ مملةٍ أخرى على مسرح العبث السياسي، أشبه بخصومة منها بصراع حقيقي، يتلخص جوهرها في النهاية بالسؤال الآتي: بأيّ شروط يتم تمديد التفاوض لأجل التفاوض مجدداً؟ وهل سيتم بسقف السلطة المنخفض أم بسقف الكيان الصهيوني الأكثر انخفاضاً؟


من هنا ردت السلطة الفلسطينية على رفض حكومة نتنياهو الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى المسجونين منذ ما قبل توقيع خيانة أوسلو الأسرى الذين يمثل تركهم في السجون الصهيونية بعد أوسلو خيانة أخرى من قبل موقّعيها – بخطوة «جبارة» غير مسبوقة في تاريخ حركات التحرر في العالم هي تقديم طلبات للانضمام إلى 13 أو 15 اتفاقية ومعاهدة دولية يتعلق معظمها بحقوق الإنسان، ناهيك عن اتفاقية لاهاي حول قوانين الحرب البرية وأعرافها!! الحرب البرية، بلى! فأخيراً يمكن أن ينام «الرأي العام الدولي» مطمئناً إلى أن جحافل القوات البرية التابعة للسلطة الفلسطينية سوف تراعي الاتفاقية المذكورة بحذافيرها خلال تقدمها المظفر في اتجاه حيفا ويافا وعكا وبئر السبع…

علق راديو جيش الاحتلال الصهيوني على طلب السلطة الانضمام إلى تلك الاتفاقيات بأن الجانب الأميركي يسعى إلى إقناع حكومة نتنياهو بأن طلبات الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية لا يجوز أن يشكل مشكلة إذ سوف يخضِع السلطة الفلسطينية للمزيد من الرقابة الدولية. اقرأ: الانضمام إلى تلك الاتفاقيات الدولية لن يأتي بسيادة وطنية لمن لا يملكها، بل يفيد بتقييد الدول ذات السيادة بوصاية دولية، فما بالك بـ «مناضل» عاقل بالغ يرى في الرقابة الدولية برنامجاً لـ «استقلال»؟!

من المعروف أن بعض التنظيمات الفلسطينية تطالب، منذ ما قبل مشروع كيري، بقوات دولية في الضفة الغربية، وأن السلطة قبلت وجود قوات دولية في منطقة الغور… أو حتى قوات لحلف الناتو بحسب بعض التقارير. ولولا تعنت العدو الصهيوني وضيق أفقه، لحسن الحظ، لتم إمرار مشروع التدويل باعتباره انتصاراً وطنياً فلسطينياً كبيراً يقزّم معارك اليرموك وحطين وعين جالوت معاً!

في معنى آخر، يحاول الجانب الأميركي أن يطمئن حليفه الصهيوني إلى أن الانضمام إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ليس أمراً خطيراً، على العكس… من المعروف أن استراتيجية توظيف «القانون الإنساني الدولي» هي عنصر رئيسي في حروب التدخل الخارجي الأميركية والناتوية في عصر العولمة، وفي استخدام «القوة الناعمة»، مثل التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية، لتقويض سيادة الدول وتقليص صلاحياتها. فالسلطة الفلسطينية تعرف أنها لن تنال سيادةً عبر مثل هذه القناة، إنما تتدلل على الكيان في ملعب الوصاية الدولية دونما خروجٍ على قواعد اللعبة: نعترف بالكيان وننسق معه أمنياً ونمنع المقاومة المسلحة ونقدم كل المطلوب، إنما أعطونا أي «مكسب سياسي» نحفظ به ماء وجوهنا… يا محسنين!

لكن مثل هذا الكلام لا يعجب الكيان الصهيوني إذ يتم من خارج قناته لا بتنسيقٍ معه، ولن يسمح للسلطة بأن تبدل ثوب تبعيتها، ولو ظاهرياً، على نحو يتعامى عن حقيقة هيمنته الملموسة على الضفة الغربية، ولذلك فهو لا يفتأ يذكر السلطة بأنها جاريته وملك يمينه: «نحن نسيطر على حرية حركة الشخصيات المهمة في السلطة في الضفة الغربية ومنها وإليها، ونملك أن نضيق عليكم اقتصادياً وأمنياً، وأن نخنق زراعتكم وتجارتكم وأن نوقف تحويل الضرائب التي نجمعها من الفلسطينيين إليكم… حتى شبكة الاتصالات، نستطيع أن نقيد إيصال معدات البنية التحتية الخاصة بها للضفة»، إلخ…

السلطة من ناحيتها لا يعنيها ذلك كثيراً بقدر ما يعنيها الوصول إلى إنجاز شكلي تماماً، سبق «تحقيقه» مراراً قبلاً، مراراً… لأنه لا يعني شيئاً على الإطلاق من زاوية تحرير فلسطين، وهو الانغماس في غيبيات «الدولة» وطقوسها ورموزها وشكلياتها، ومنها الانضمام إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية… ما يمثل من الزاوية النفسية-الاجتماعية حالة نموذجية للانفصال السياسي اللاعقلاني عن الواقع، واقع الاحتلال الصهيوني لكامل فلسطين، ورديفاً سياسياً للانتحار الجمعي بدفعٍ من ذهان التسوية بعد التخلي المجاني عن حبل خلاص المقاومة، وكان ذلك نتيجة خيار تاريخيٍ رثّ بدأ يتبلور ضمن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية منذ إقرار برنامج «النقاط العشر» في دورة المجلس الوطني الفلسطيني الثانية عشرة في القاهرة عام 74 الذي يقوم على «تأسيس سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء يتم تحريره»، وبذلك أصبح برنامج «الدولة» بديلاً من برنامج التحرير، أي بديلاً من برنامج أي شعب وأرض يقبعان في ظل احتلال.

نقول إن مثل هذا الخيار تبلور كنهج في المرحلة الذهبية للثورة الفلسطينية المعاصرة، أي منذ السبعينات، لا نتيجة «تخلي العرب عن القضية الفلسطينية» مثلما يزعم البعض اليوم. ولا بد لمقدمات تلك المرحلة من أن تتمخض عن نتائج كهذه…

غير مهمّ فعلياً الآن إن استمر التفاوض لأجل التفاوض بين السلطة والكيان الصهيوني أو لم يستمر، لأن هدف مشروع كيري كان تسكين الملف الفلسطيني تحضيراً لضرب سورية، تماماً مثلما مهدت «خريطة الطريق» لضرب العراق، و «استحقاق أيلول» لضرب ليبيا. أما حين عدلت الولايات المتحدة عن ضرب سورية، فإن نتنياهو واليمين الصهيوني باتا يتعاملان مع مشروع كيري بالمزيد من الاستخفاف، وصولاً إلى نسف العملية برمتها، من دون أن يعوق مشروع كيري عملية تهويد الضفة والقدس بالجملة. فإذا استؤنف التفاوض لأجل التفاوض، فإن ذلك قد يكون مؤشراً على تصعيد مقبل في سورية، وإذا توقف الولايات المتحدة عن ذلك وسكتت، فإنه قد يكون مؤشراً على قرب الحل السياسي في سورية. وفي الحالتين، لن تنال السلطة الفلسطينية شيئاً أكثر مما قدره لها الطرف الأميركي-الصهيوني، حتى يحين موعد استبدال الحرس…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى