«أنت ويكفي»… الحروف المنفيّة جبرتها الذاكرة الشفوية!

النمسا ـ طلال مرتضى

البلاد التي أنجبتنا من رحم ترابها وأنكرتنا، لم تزل تعشعش غِلّ أرواحنا، كيف لا وقد نشبنا فيها كما الأظافر في اللحم. صارت لعنة مُذ تمادت «داية» الحيّ وقطعت حبل السرّ بيننا. البلاد التي صارت ناقة حلوباً، تُرضع لبن روحها لعابري الحدود من دون ثمن، بينما ينام «حوارها» ظامئاً.

«الحوار» الذي شرّدته الحرب صار «جَمَلاً» غيّوراً بما فيه الكفاية، حفظ سهوبها طيّ ذاكرته، رسم خريطتها في وجه الحبيبة، لم يزل قابضاً على جواز سفره الموشى بنسر كالقابض على الجمر.

في مجموعة الشاعر العراقي الدكتور ناظم حمد السويداوي «أنت ويكفي» الصادرة عن «دار العلوم العربية للطباعة والنشر والتوزيع» 2016 ـ بيروت، نتلمّس عن كثب المقولة بأنه رسم خطّها الشعري حسبما يرتأي هو. أي قولب النصوص داخل إطارات لتدلي ترميزاتها إلى هدف بعينه. ولعلّ هذا جاء على حساب الدفقة الشعرية المتفلّتة نحو العفوية المطلقة. وليس في ذلك عيباً يمسّ هيبة المقولة، تبريراً، لأن الشاعر ينظر من العين الثالثة، أي بعد القارئ والناقد الذي سينقّب عمّا دفنه الشاعر من نفائس الحكي طيّ القصائد لتبيان مفاتيح سرّها. وهنا أعني بالعين الثالثة، أنه الشاعر الأكاديمي، وفي ما يقول العوام: «ابن اللعبة أو الكار»، هذا ما جعله ينحاز، في بعض النصوص، إلى اللغة والمعمار الفنّي للقصيدة.

وفي معارضة أخرى من مفاز القول، أشي بأن الدكتور ناظم السويداوي الشاعر الأكاديمي، وقع أسير موروثه الشفويّ في معظم نصوصه، وهو ما زادها بهائية جماليةً آسرةً عندما ارتبطت علائقها بمخزونه الوراثيّ الذي اكتسبه بالفطرة والمشافهة جيلاً عقب جيل، وتجلّى ذلك في معظم نثيره المسفوح طيّ الورق، وقد تأتّى على شكل مقولة شعبية أو مثل أو لحن شعريّ مغنّى:

يا حادي الأجمال

لا تقف

عجّل السير

حرّك الوجد

وارفع وجعي بالتي

يا حادي الأجمال

أعِرْني صبرَك

فالشوق يغلبني.

على ربتم «حادي العيس»، وكذلك نحوه إلى القصيدة المغنّاة، والتي نردّدها بشكل عفويّ لكسر مناسبة ما حضرت بغير أوانها كما جاء:

فلا العيدُ عيدي يا غريبَ الدار

ولا الأعياد أعيادك.

هنا، الدكتور ناظم السويداوي حمّل نصوصه النثيرة أصواتاً غير مرئية ومن غير أزمنتنا، لكنّها تعشعش طيّ ذاكرتنا الجمعية، مرّرها بسلاسة العارف عبر ممكنات اللغة التي يعرف كيف يدير دفّة قاربها، حين ناجى «ليلى» التي نختزنها في الحكايات والأغاني، بدءاً من أقصوصة «ليلى والذئب»، إلى العامرية مجنونة قيس، إلى تلك المريضة في العراق وكم تمنّينا أن نكون لها الطبيب المداوي:

من وحي ليلى

عبارات شتّى

نار الحشا

تأوّه وأشواق

وأفنان… إلى

الشوق قادني

ما للعين أجفان

لفّيني

ضمّيني

عانقي خطاي

اطلبي الوصال

لا تسألي من أنا

اسألي الركبان.

«أنت ويكفي» قصائد نثيرة جاءت محمّلة بأسئلة الغياب والافتراض، برسم الحبيب البعيد أو الوطن المثقل بجراحاته دونما أجوبة شافية:

أسأل

عن ذلك الذي رحل

وترك وراءه

خزيناً من الذكريات

ماذا

لو عاد واتّصل؟

هذا الاكتناز الشفويّ المعرفيّ الرخيم، ترك كثيراً من الافتعالات والمقاربات مع ما قيل عندما لامسه تناصّه الآيات الكريمة بقوله:

ويسألونك عن الشوق

قل فيه نارٌ ولوعةٌ

وتباريح.

كذلك حينما قارب المقولة الشائعة:

أين أنت

لأصبّ جامات

العشق عليك؟

ويعزى أن جلّ النصوص أتت بضمير المخاطب في كناية للبعيد مثل:

يا أيها البعيد، يا هذا، يا من حويت قلبي بكلّك، ويا عمر عمري.

وفي تجلٍّ آخر يتساءل:

من أي جنّة أنت؟

من أي نار تتوقّد؟

فكلّ الفصول أنت

بزهوَك أتفنّن

وترتمي أشيائي خجلاً

حين تكون.

بوجه الإجمال، قد جاءت النصوص كما أسلفت، متهادية ومتعالقة مع ذاتها ودالّها الفاخر من دون مواربات، معلنةً انحيازها لأناها الرهيفة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى