صلابة الروح القومية
د. رائد المصري
قد يعتقد البعض أنَّ في كلامي المُدرَج أدناه مغالاة وتوهُّماً في وصف الحالة الميدانية والعسكرية التي تحقَّقت إلى اليوم في معارك اليمن والعراق وسورية، في وجهِ المدِّ التكفيري الوهابي، كأداة للتوظيف المخابراتي الأميركي والغربي ضمن عملية التخريب المُمنهجة للبلدان العربية والمشرقية منها على وجه التحديد.. فما الذي تحقَّق على طريق هذا الانتصار؟
لقد باتَ واضحاً أن كلتا المعركتين مترابطتان ومتلازمتان في الموصل العراقية وفي حلب السورية، إذ إنه وحتى الأمس القريب كان الكثير من المثقفين والنُّخب التابعين للمال الغازي والنفطي يعتبرون أنَّ القرار العراقي مسلوب ومُهيمَنٌ عليه خارجياً ضمن انقسامات طائفية ومذهبية بحكم المصالح والمحاصصات، والذي اعتبر من خلالها السعودي أيضاً أنه قادر على توسيع الهوَّة بين أبناء الشعب الواحد، وتسعير الخطاب واللهجة المذهبية مستفيداً من حالات الريبة والشك الدائرة بين صفوف القوى السياسية العراقية.
تأتي معركة الموصل ولو كانت متأخرة لتُبدِّد هذه الشكوك في الحالة المجتمعية العراقية عبر الالتفاف الشعبي والسياسي وعبر القرار العراقي الموحَّد والاستقلالي والذي تميَّز واستطاع إدارة دفَّة المعركة ضدَّ تنظيم داعش الإرهابي بكلِّ حصافة ومسؤولية بعيداً عن الإرادة والرؤية الأميركية التي تريد تطهير الموصل من داعش بالتنظير والبيانات وإبقائها على مساحات جغرافية واسعة بين العراق وسورية في جرحٍ نازفٍ لكِلتا الدولتين.
لكن صلابة الموقف العراقي وعزم القيادة السياسية والعسكرية على الحسم في الموصل قَوَّاه وشدَّ من أزره قرار الحشد الشعبي والعشائري بالوقوف إلى جانب الدولة العراقية ووحدتها ومركزيتها، وبالتالي منع التسويف والالتفاف على تحرير الموصل بالانتقال وسريعاً الى تلعفر لقطع الطريق على الدواعش الهاربين من الموصل ولمنع دخولهم الأراضي السورية، لنشهد الحالة الهستيرية في الإعلام السعودي والخليجي والأميركي والغربي بالحديث عن مجازر يرتكبها أو قد يرتكبها الحشد الشعبي بحقِّ أبناء الموصل من أهل السنة.. ومن دون أن نعرف مواقف هذا الإعلام التضليلي من مجازر داعش بحق أهل السُّنة من عشائر العراق وسورية منذ العام 2014 حتى اليوم.
في مجمل القول إنَّ القوة والصلابة في الموقف العراقي وتعزيز الدور المركزي للسلطة فيه، وبما يمتلك هذا البلد من موقع جيوسياسي مهم ومَعْلَم حضاري ووحدة سكانية قد يستطيع من خلالها صدَّ هذا التمدُّد الخليجي والسعودي بأدواته التكفيرية وفكره الوهابي، ويشكِّل العراق كذلك ثقلاً موازياً لهذا الدور الخليجي التخريبي والسعودي تحديداً. كذلك فإنَّ عملية صمود العراق وبقائه موحَّداً وتطهيره للموصل سيساعد كثيراً سورية والدولة السورية في السيطرة على ما تبقَّى من أراضٍ يحتلها تنظيم القاعدة في بلاد الشام وداعش وهو ما تجسَّد فعلاً بقصف مواقع المعارضات التكفيرية المسلحة في الباب التي يستخدمها الأتراك كواجهة لاحتلالها المباشر وتصعيد الخطاب الكلامي في وجه التركي على غرار التصعيد العراقي من الدخول العسكري إلى منطقة بعشيقة.
صمود الدولة العراقية ووحدتها يقضُّ مضاجعَ الأتراك ويُقلقهم عسكرياً واقتصادياً، لذلك نجدهم دائمي الحديث عن الحماية المذهبية للمكوّنات العراقية وشرعية التدخُّل عبر استخدام الموروث التاريخي والوقائع التاريخية بادعاء ملكية الموصل وغيرها من الأراضي العراقية والعربية. وهذا بدوره يجعل الأكراد في إقليم كردستان العراقي يحسبون ألف حساب بما يقوِّض أو يحدُّ من فاعلية تمدُّدهم واستقلالهم عن الدولة العراقية المركزية والكفِّ عن ابتزاز الدولة المركزية، والقيام بإعادة حساباتهم والتعقُّل في أيِّ مغامرة تضع وحدة العراق في مهبِّ التقسيم.
إلاَّ أن المفارقة الأهمّ في تعزيز صمود ووحدة العراق من خلال معركة الموصل هو التسهيل والمساعدة للدور السوري في القضاء على الإرهاب، والقضاء على المحميّة الجغرافية التي يُريد الحلف الأميركي التركي والصهيوني السعودي إقامتها كمنطقة عازلة في الشمال السوري، ويضع فيها كلَّ عناصر تنظيم داعش الإرهابي وجبهة النصرة لتبقى حالة الاستنزاف قائمة بين الدولتين السورية والعراقية لعشرات السنوات مستقبلاً.
أعتقد أنَّ هذه السيناريوات التي رسَمها المشروع الاستعماري الغربي وأدواته الإقليمية للمنطقة ستبدأ بالانحسار، ومن ثم بالارتداد عليهم لإحداث أزمات مجتمعية في الخليج وفي السعودية والتي بدأت بوادرها تظهر، وأزمات قومية وإثنية وتشاركية في السلطة في تركيا العدالة والتنمية، كذلك أزمات في الغرب على المستوى الأمني والاقتصادي، وتخبط حتى على مستوى الخطاب السياسي وفي صلب العملية الديمقراطية التي تُعتبر لديهم مؤسسات تاريخية عريقة.