سعاده في الردّ المبكر: «سايكس ـ بيكو» مقدّمة «وعد بلفور»
د. محمود شريح
كان أنطون سعاده 1904 1949 في الحادية والعشرين حين أعلن من مغتربه في البرازيل على صفحة مجلّة والده «المجلّة» سان باولو، أيار 1925 انه قد صحّ الصحيح وزار بلفور سورية لكي يهلّل مع أصحابه الصهيونيين أثناء الاحتفال بإقامة المعهد اليهودي العلمي الأول من نوعه في فلسطين التي وعدهم بجعلها وطناً قومياً لليهود للحالة المرعبة التي تهدّد ذلك القسم الكبير من سورية دويلات ستكون في صفحات التاريخ لعنة أبدية على بلفور والسياسة الانكليزية.
وكان سعاده أشار من قبل في الجزء الأول من سنة المجلّة نفسها إلى أنّ امتداد الصهيونية المرتبطة ببلفور بعهد أقلّ ما يُقال إنه أسوأ العهود الدنيئة في تاريخ الدول، لأنه فضلاً عن أنه عهد غير مبني على شيء من العدل الإنساني والحق الطبيعي جاء طعنة من الوراء في ظهر الشعب السوري الذي قدّر أمانة سياسيّي الحلفاء وسلامة نيتهم تقديراً سليماً انتهى بهذا الغدر الذي قلّما سمع بمثله، وهو غدر صادر عن أسمى مقام سياسي في أوروبا بوقاحة وصلابة جبين يخجل عن إتيان مثلهما البرابرة فضلاً عن المتمدّنين الذين يفهمون الحقوق والإنسانية.
وألحّ سعاده على خطر استفحال الحركة الصهيونية الذي يتهدّد سورية من وراء ذلك، وأشار الى الموقف المخجل الذي وقفه السوريون تجاه محاولة الصهيونيين امتلاك فلسطين، وتهديد سورية كلها بخراب اقتصادي وسياسي مؤكد، وأوضح أنّ محاربة الحركة الصهيونية لا يجب أن تقتصر على فلسطين التي هي جزء من سورية بل يجب أن تتناول سورية كلها التي يجب أن لا يحول دون تضامنها الفعلي لحفظ كيانها ونيل استقلالها التامّ، التقسيم السياسي الذي وضعه سياسيّو أوروبا وفقاً لأغراض ومقاصد دولهم التي ألفوها تحت أسماء الوصاية والانتداب وما شاكل تسهيلاً لتنفيذها. وسرّ سعاده أن تكون زيارة بلفور لسورية قد جعلت السوريين جميعهم يظهرون نوعاً من التضامن الذي قلنا ولا نزال نقول بوجوب التمشي عليه اذا كنا نرجو لأنفسنا حرية تستحق الحياة.
وألمح سعاده إلى انّ بلفور لم يلاق في زيارته لسورية سوى تيار عام من الاستياء والسخط العظيمين وهذه هي بارقة الأمل الأولى التي بدت في غياهب اليأس من تكوين رأي سوري عام، فهي المرة الأولى التي ظهرت فيها أقسام سورية كلها متفقة على رأي واحد في ما يختص بالقضايا السياسية التي لها مساس بحياة سورية وهي المرة الأولى التي شعر فيها مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي بفرح واستبشار من وجهة قضيتنا الوطنية، وكان أعظم استياء في سورية اتخذ وجهة خطرة هو الاستياء الذي حدث في دمشق عاصمة سورية وكعبة الحركة الوطنية السورية، فإنّ ما جرى في دمشق على اثر وصول بلفور إليها لما يستحق التسجيل في بطون التاريخ، وانّ سعاده بعد اطلاعه على تفاصيل ما حدث في دمشق كما نشرتها جريدة «ألف باء» الدمشقية لم يتمالك من الهتاف لدمشق وحياة دمشق، لكنه استدرك انه رغماً من كلّ ما حدث في طول سورية وعرضها من المظاهرات الدالة على استياء السوريين من بلفور وكرههم لوعده التاريخي السيّئ الطالع لا يمكننا أن نهرب من وجه الحقيقة التي لا تقبل جدلاً وهي أنّ كلّ ما حدث كان أقلّ شيء يمكن سورية أو أية أمة أخرى أن تفعله، ونريد بهذا أن نقول إنّ سورية لم تفعل ما يجب فعله لإدخال قضيتها الوطنية في طور جديد يكون من الخطورة بمكان يدعو إلى جعل المسألة السورية مسألة يجب حلها على ما يتفق مع رغائب السوريين الوطنية .
ومقولة سعاده في ذلك إنّ ما حدث مع اعتبار وجهته الحسنة هو على الحقيقة غير ما كان يجب أن يحدث واعترف بأنه عندما بلغه خبر سفر بلفور إلى سورية رجّح أنّ بلفور سيبقى هناك إلى الأبد وتوقع أن تظهر الوطنية السورية في هيئة بركان يقذف على الصهيونيين ومعاضديهم حمماً قتالة، وأنه بعد التفكير توصّل إلى الاعتقاد بأنّ ذلك كان يكون أفعل كثيراً من كلّ شيء آخر. أما الأسباب التي حملته على هذا الاعتقاد فأبداها في الفقرات التالية:
بقوله انه قبل كلّ شيء من الذين يعتقدون بتأثير الجمعيات السياسية السرية، فلما جمعته الظروف ببعض الأصدقاء لم يتمالك من إبداء رأيه بترجيح القيام بحركة فعلية لا تكون أقلّ من ثورة تديرها جمعية أو جمعيات تعمل في الخفاء لإنقاد الوطن من الطامعين فيه المعتدين على حقوقه الاجتماعية والطبيعية.
فأعلن سعاده انه ستقع لبلفور وصهيونييه حوادث مؤلمة تكون قصاصاً لهم وعبرة لمن ينوي أن يأتي بعدهم ويتمّم العمل الشائن الذي ابتدأوا فيه ويكون للناظرين إلى أحوال العالم صورة حقيقية لما يجرّه على الأمم مثل وعد بلفور. ولكن أولئك الأصدقاء أظهروا من المخاوف من مثل ما ارتأيناه ما جاوز حدّ الاعتدال.
وعلى صفحة جريدة «النهضة» في عددها الصادر في 4 تشرين الثاني 1937 جدّد سعاده مخاوفه من تبعات وعد بلفور على الأمة السورية جمعاء، فأورد نصّ الوعد قبل تفنيده:
«إنّ حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، مع البيان الجلي بأن لا يفعل شيء يضرّ الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين الآن، ولا الحقوق أو المركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى».
فرأى أنّ هذا هو الأساس الحقوقي الانترنسيوني للحركة اليهودية الرامية إلى الاستيلاء على فلسطين في الدرجة الأولى وعلى سورية الجغرافية كلها تدريجياً، أما الوجه الحقوقي في هذا التصريح فالصواب فيه ما أعلنه زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي في مذكرته المرفوعة إلى الجمعية الأممية وردّ به على اقتراحات البعثة الملكية البريطانية القائلة بتقسيم فلسطين والاعتراف بدولة يهودية فيها.
وعد سياسي لا حقوقي
ففي تلك المذكرة أعلن سعاده إنّ هذا التصريح هو وعد يقيّد بريطانيا تجاه الصهيونيين، ولكنه يتعلق بمصير شعب ورد في المادة الثانية والعشرين من ميثاق الجمعية الأممية بشأنه أنه أحد الشعوب المستعيدة سيادتها من السلطنة العثمانية. وإيجاد توافق بينه وبين صكّ الانتداب الذي يجب أن يكون متفقاً في الأساس مع البند المذكور من ميثاق الجمعية الأممية، هو من أغرب الشعوذات السياسية في التاريخ الحديث. ولقد استطاعت المشيئة ذات المصلحة أن تموّه على صيانة الحقوق بواسطة هذه العبارة «مع البيان الجلي بألا يفعل شيء يضرّ الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين الآن»، فرأى سعاده انه واضح من هذه العبارة انّ تنفيذ نقل جنوب سورية إلى اليهود يجب أن يجري بصورة لا تعطل شيئاً من عقود الزواج التي تجري بين السوريين ولا تفقدهم الاشتراك في الشؤون العمومية الجارية موقتاً ريثما يتمّ الاستملاك الكافي للاعتراف بالدولة اليهودية القائمة على أساس «الوطن القومي اليهودي»، إذ أنّ الوعد وعد سياسي لا حقوقي، فليس لبريطانيا أية حقوق في فلسطين تجيز لها أن تهب شعباً غريباً حقوقاً قومية فيها، ولكن بريطانيا استندت في إجازة هذا الوعد المشؤوم على المخابرات والمفاوضات السياسية التي كانت دائرة بينها وبين حليفتيها فرنسا وروسيا بصدد اقتسام تركة «الرجل المريض» الذي يعنون به تركيا.
وقد أدّى هذا الوعد إلى إراقة دماء كثيرة حتى الآن. وهو سيكون سبباً في إراقة دماء كثيرة جديدة إذا ظلت بريطانيا مصمّمة على تنفيذه، ففي سورية أمة قد تنبّهت لوجودها وحقوقها لا يسهل أن تتنازل عن هذه الحقوق بناء على وعد قطعته دولة أجنبية لشعب غريب.
وبفطنة ورؤية استشرافية اعتبر سعاده أنه إلى جانب الأمة السورية نجد أمم العالم العربي الأخرى التي تتطيّر من نشوء دولة يهودية في جنوب سورية تكون مزاحمة لها في الاقتصاد والنفوذ، فهي أيضاً لا توافق على نشوء هذه الدولة لأنها تهدّد مصالحها، فألحّ على انه لا مشاحة في أنّ هذا الوعد جلب للشرق الأدنى مشاكل كان في غنى عنها وبديهي أن تكون للسياسة البريطانية فوائد من اليهود واكتساب ولائهم. ولكن بريطانيا قد أثارت بهذا العمل قضية خطرة على نفوذها لأنّ أمم الشرق الأدنى ستفكر ملياً في العملية الجارية الآن في فلسطين بقصد تجريد شعب من أرضه وإعطائه لشعب غريب لا حق له في هذه الأرض ولا وجه لفهم وجوده عليها إلا بواسطة وعد بريطانيا الذي يتهجّم على حق شعب له وحده السيادة على الأرض التي تكون وطنه.
ورأى سعاده بوضوح أنّ الدلائل تشير إلى أنّ بريطانيا ماضية في تنفيذ وعدها ومعجّلة في ذلك الآن لكي تصل إلى الاستقرار السياسي في شرق البحر المتوسط الذي يطمئنها إلى مركزها ويحفظ لها صداقة اليهود الضرورية في حالة حرب، ولكن رأى أيضاً أنّ المضيّ في تنفيذ هذا الوعد سيخلق قضية أخرى من يدري نتيجتها، فأعتبر أنّ هذه القضية هي قضية نفوذ بريطانيا في الشرق الأدنى، فحتى الآن استطاعت بريطانيا أن تبسط نفوذها وتوجد حالة ملائمة لسياستها فانتبه إلى أنّ كلّ ذلك قد أصبح معلقاً على مصير وعد بلفور.
وبنى سعاده استنتاجاته على وقائع تاريخية فقال إنه منذ وضعت الحرب العامة أوزارها وسورية تتململ وتتشنّج، ولكن تشنّجاتها ظلت تشنّجات جزئية موضعية. فهي لم تكن إرادة أمة بل آلام أمة. والذين يراقبون تطوّر الأمة يرون أنها فقدت كثيراً من مادياتها ومعنوياتها، فاعتير أنّ مصاب الأمة هو في أنّ عدداً من المكتسبين نفوذاً من العهد البائد نصبوا أنفسهم «متزعّمين وطنيين» وقاموا يعالجون شؤون الوطن ضمن نطاق محلي ضيّق فما تجاوز أفقهم حدود الإمكانيات المحلية، ولم يكن لهم إدراك سياسة سوى السياسة الاعتباطية، التي هي مجرد انعكاس عن الظروف وظواهر الأمور والأمر الواقع.
رأى سعاده أنّ هذه السياسة الاعتباطية الانعكاسية أحدثت سلسلة من الأعمال «الوطنية» الجامحة التي لم تأت بنتيجة غير الخسارة المادية والمعنوية، فالسياسة في الشام بُنيت على إثارة الشعب في كلّ ظرف ودفعه إلى أعمال عنف غير موزونة ولا محسوبة نتائجها، فخرّبت بيوت المئات والألوف وشلت حركة التجارة المنظمة وتأخرت الصناعة والأعمال الإنشائية ولم يحصل من كلّ ذلك نتيجة سوى معاهدة ربحت ووطن تمزق.
أما في فلسطين فاعتبر سعاده أنّ هذه السياسة عينها اتبعت ولكن بصورة أقلّ تناسباً، فصّرح بأنّ المحاولات السورية الأولى في فلسطين كانت ناجحة ضدّ اليهود، ولكن هذا النجاح، ككلّ نجاح غير منظم، كان موقتاً، وآخر ما قامت به فلسطين هو الثورة الماضية التي أعطت النتائج التالية:
إيجاد مرفأ خاص باليهود في تل أبيب.
تجرّؤ اليهود على مهاجمة قرى ومزارع سورية.
تمركزت القوات البريطانية في النقاط الاستراتيجية.
فقد الموسم السنوي.
الجرحى والقتال.
مشروع التقسيم.
وأدرك الزعيم وهو في الثالثة والثلاثين أنه لما انتهت الثورة وجاءت البعثة الملكية للبحث في أسبابها أعلنت «اللجنة العربية العليا» مقاطعتها لها ثم عادت عن هذه المقاطعة عندما أدركت ضرر المقاطعة، وأعلن أنّ دفاع المتزعّمين السوريين كان واهياً جداً من الوجهة الحقوقية، واعتبر أنّ بريطانيا ماضية في تنفيذ سياستها في فلسطين. وهذه السياسة مبنية على أخذ مضمون وعد بلفور بعين الاعتبار والنظر إلى اليهود نظرة المعترف بـ»حقهم» في الوطن السوري.
سياسة انعكاسية
ومن هنا أشار سعاده إلى أنّ اللجان الفلسطينية لم تدرس جيداً خطط هذه السياسة وممكناتها العملية ولم تسع لتخطيط سياسة ثابتة يصحّ التمشي عليها، إذ رأى أنّ الفكر السياسي هذا خاضع لاعتبارات السياسة الاعتباطية فقط وكانت النتيجة انّ الظروف هي التي تعيّن الانعكاس وانّ السياسة القومية في فلسطين بقيت سياسة انعكاسية، ومن هنا إلحاح سعاده على «أنّ الوطنية عاطفة نبيلة ولكن سياسة التضحية يجب أن تكون مخططة تخطيطاً دقيقاً وسفك الدم ضروري متى كان وفاقاً لخطة دفاعية موزونة واضحة أهدافها العملية ومحسوبة مبرّراتها التنفيذية. أما سفك الدم عن جهل للنتائج فنتيجته خسارة الأرواح وضياع الثروة والوقت. ليت العاملين في السياسات المحلية يدركون الحاجة إلى سياسة قومية تحفر خططاً عميقة في حياة الأمة وتكون اتجاهاً ثابتاً. لقد ذرّ قرن الثورة من جديد في فلسطين، فعسى أن تكون أقلّ ضرراً من الثورة السابقة».
وكان الزعيم قبل تحبيره هواجسه من تبعات وعد بلفور السيئة على الأُمة السوريّة قد طيّر مذكرة في 14 تموز 1937 إلى العصبة الأممية والأمم المتمدّنة بشأن تقسيم جنوب سورية على أثر قرار الحكومة البريطانية وتقرير البعثة الملكية «بعثة اللورد بيل» الذي اعتبر مسألة جنوب سورية مسألة بريطانيــة بحت، أشار فيها إلى أن البعثة الملكية، التي أرسلت خصيصاً لدرس بواعث الثورة السورية وكيفية تطبيق الانتداب وماهية الظلامات من جانب اليهود لإعطاء التواصي التي ترتأيها لإزالة الظلامات، وضعت مقترحات تقول بإعادة تقسيــم وتحديد جنوب سورية بحيث تنشأ هناك دولتان سورية عربية ويهودية وتبقى وسط هاتين الدولتين منطقة ومراكز معينة تحت الانتداب البريطاني. وأن تبنّي هذه المقترحات من قبل حكومة صاحب الجلالة البريطانية يضع أمام الأمة السورية مشكلة جديدة وعلية يرى زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي من واجبه أن يعرض لها ويضع جوابه على تقرير البعثة وبلاغ الحكومة البريطانية ويرفعه إلى العصبة الأممية والأمم المتمدنة.
أرض كنعان
يردنا سعاده إلى سجلّ التاريخ فيعرض أن جنوب سورية كان مقرا للكنعانيين الذين اتخذوه وطناً وعرف باسمهم فسمي في أحاديث اليهود أرض كنعان فجاء العبرانيون إلى هذه البقعة عشائر بربرية متبدية وأخذوا يعيثون في الأرض ويخربون وينهبون… ومع الوقت استولوا على بعض المدن والأراضي وأنشأوا فيها إمارة خاصة بهم، واخذوا من الشرائع الكنعانية شريعتهم، ولكنهم ظلوا تجاه أهل البلد الأصليين وغيرهم من الشعوب غرباء يحتاجون إلى توطيد إقامتهم بالسيف، وظلت هذه حالهم إلى أن ضربتهم الدولة السورية ضربة عظيمة وشتتهم الرومان، ليخلص الى أنه من هذه اللمحة نرى أن «المسألة اليهودية» في العالم ابتدأت قبل الجلاء من سورية، أي منذ مجيء العبرانيين «الجيرو» من البادية إلى جنوب سورية، وواضح أن اليهود ليسوا أصليين في البلاد، أن وجودهم في فلسطين لم يجعل لهم صفة خلفاء لأهل البلاد الأصليين، وواضح أن بقاءهم في جنوب سورية كان يجب أن ينتهي بذوبانهم في أهل البلاد، فتفشت فيهم اللغة الآرامية وغلبت عليهم عادات أهل البلاد وجاءت المسيحية تقول بإلغاء الامتيازات الدينية لليهود وإزالة الخصوصيات اليهودية، وعليه يرى سعاده إذاً أن ادعاءات اليهود في جنوب سورية ليست قائمة على أساس حقوقي، فلا يبقى ادعاؤهم وعد الله بجعل أرض كنعان ميراثاً لهم، وهو عودة إلى النظرة الخصوصية في الدين، ولم يؤيد الله وعده لهم في المسيحية ولا في المحمدية ولا في أي دين إلهي آخر.
يسوق سعاده كل هذه الحقائق التاريخية مقدمة لما صرّح به بلفور فيرى سعاده أنّ قيمة هذا التصريح هي في أنه تصريح سياسي يقيد الدولة البريطانية باليهود، وليس لهذا التصريح أية قيمة حقوقية على الإطلاق، وهو لا يقيد سورية ولا شعب جنوبها في شيء.
ويستشهد سعاده بالمادة الثانية والعشرين من ميثاق العصبة الأممية التي تمنع من الوجهة الحقوقية الانترنسونية أي تصرف حقوقي من قبل الدولة المنتدبة يمس سيادة الأمم المنسلخة عن السلطنة العثمانية المعترف بأنها «أمم مستقلة» أي ذات سيادة قومية على نفسها وأوطانها.
وفي ما يخصّ بعثة بيل يلحّ الزعيم على أن النقطة الابتدائية لنظر بعثة اللورد بيل هي اعتبار مسألة جنوب سورية مسألة بريطانية بحت متعلقة بوعد بريطانيا للحسين ووعدها لليهود، فيؤكّد أن هذه الوجهة فاسدة حقوقياً لأنّ ما تريد أن تتقيد به بريطانيا لأسباب ليس حقاً على منطقتها الانتدابية في سورية، وإن اعتبار الوعود البريطانية أساساً لبحث مسألة جنوب سورية، بدلاً من المادة الثانية والعشرين من ميثاق العصبة الأممية، مناقض كل المناقضة للمبادئ الحقوقية المعترف بها عند الأمم المتمدنة، أي أن مسألة جنوب سورية ومصيره ليست بريطانية داخلية.
حصول النكبة بالفعل
ويشير سعاده إلى أنّ ما خرجت به البعثة البريطانية المشار إليها من أبحاثها واستقصاءاتها إلى وضع عدة تواص أهمّها اقتراح إعادة تقسيم جنوب سورية بحيث توجد فيه دولتان متعاهدتان مع بريطانيا ومنطقة انتدابية بريطانية وملحقاتها. وقد تبنت الحكومة هذا الاقتراح وستحيله إلى لجنة الانتدابات في العصبة الأممية لإعطاء مطالعتها.
تعدد البعثة الفوائد التي تعود على السوريين «العرب» وعلى اليهود من جراء هذا التقسيم. وأول فائدة للسوريين هي نوالهم استقلالهم القومي، وهنا رأي سعاده جليّ وكأن التقسيم هو الطريقة الوحيدة للاستقلال. ثم يورد سعاده ملاحظاته على فوائد بعثة بيل:
1 ـ أن نيل السوريين في الجنوب استقلالهم القومي يفيد أنهم لم يكونوا مستقلين تحت الانتداب، وهذا مناقض للمادة الثانية والعشرين من ميثاق العصبة الأممية الذي يعلن الشعوب المنسلخة عن السلطة العثمانية «أمماً مستقلة» ثم أن نوالهم هذا الاستقلال سيكون خسارة أفضل قسم من وطنهم وتقلصهم ضمن المنطقة الطاغية عليها الصحراء واعترافهم بأن القسم الكبير من وطنهم الذي سيجردون منه هو أرض يهودية لا سورية.
2 ـ إن زوال ما يساور سوريي الجنوب من الخوف من طمو اليهود عليهم هو بحكم التقسيم من الخسائر للسوريين لا من الفوائد لهم. لأنه يعني تخلصهم من خشية الوقوع في نكبة بحصول النكبة بالفعل بتنفيذ مقترحات البعثة الملكية الموقرة.
3 ـ تعيين حدود «الوطن القومي اليهودي» يتطلب الاعتراف بهذا الوطن وتنازل السوريين عن حق سيادتهم على وطنهم. وهو خسارة مادية لا يمكن الأمة السورية أن تسلم بها لأنها مسألة حياة وموت لها. وكذلك لا يمكن الأمة السورية التسليم بإيجاد انتداب جديد على أرض ومدن هي جزء من الوطن السوري.
4 ـ إن التعويض لسوريي الجنوب عن خسارة أراضيهم بإعانة مالية من الخزينة البريطانية ومن «الدولة اليهودية» حين تبادل السكان هو استملاك إكراهي لهذه الأراضي.
5 ـ إن التقسيم المقترح يكتسب الوطن اليهودي صيغة «دولة» ستكون نواة الدولة اليهودية «التي ستستعبد الشعب السوري وتفرض الجزية على الأمم الغريبة» حسب نصوص التلمود.
6 ـ يخول التقسيم اليهود زيادة هجرتهم وجعل أراضي الدولة اليهودية يهودية مئة بالمئة وإتمام تكوين دولة يهودية على أرض سورية وطرد السوريين من الأرض المحددة لدولتهم ليتشتتوا، إذ لا أرض في فلسطين تصلح لإقامتهم بالنسبة إلى مستوى معيشتهم ودرجة ثقافتهم. والبعثة الملكية نفسها تشير في مكان من تقريرها إلى صعوبة إيجاد أراض زراعية ينقل إليها السكان السوريون من المنطقة المقتــرح أن تكون يهودية.
إثر هذا التفنيد المنطقي لفوائد بعثة بيل يخلص سعاده إلى «أن اقتراح إعادة تقسيم جنوب سورية بحيث تنشأ دولتان سورية ويهودية ومنطقة انتدابية وملحقاتها هو مشروع تحقيقه يعني اهتضام حق الأمة السورية وسيادتها على وطنها وخرق وحدة الوطن السوري وسلب سوريي الجنوب أفضل أراضيهم، وهو ينطوي على عملية اقتطاع أراض جديدة من السوريين وتسليمها إلى «الدولة اليهودية» الموضوع بمهارة دبلوماسية من قبل البعثة الملكية. وإن تبني حكومة صاحب الجلالة البريطانية هذا الاقتراح يخرق حرمة السيادة القومية للسوريين المعترف لهم بها في المادة الثانية والعشرين من ميثاق العصبة الأممية، وان تنفيذ مشروع تقسيم فلسطين لا يزيل أسباب الاضطرابات التي ما فتئ جنوب سورية مسرحاً لها منذ شرع في إعطاء تصريح بلفور العابث بحقوق الأمة السورية مجرى التنفيذ بل يزيد أسباب هذه الاضطرابات بزيادة فاعلية الضغط اليهودي الاقتصادي والسياسي وزيادة الظلامات السورية.
تجاه هذه الحقائق يعلن الحزب السوري القومي الاجتماعي عدم رضاه عن مشروع التقسيم ويدعو العصبة الأممية والأمم المتحدة الصديقة إلى رفضه وإعطاء الأمة السورية حقها وتأييد سيادتها القومية».