«رؤى في الخطاب العربيّ» لنبيل طعمة حول فلسفة التكوين الفكريّ
يرى الدكتور نبيل طعمة في كتابه الجديد «رؤى في الخطاب العربي» أن الإنسان العربي أهمل نتيجة لعوامل القهر والحرمان قواه كلّها وغيّب روءاه الفكرية وارتكز على الغريب، فتحوّلت طاقات المجتمع العربي إلى كيد العداء لأبنائه، بدلاً من أن يصنع من قدراتهم العقلية والاجتماعية طاقة تحميه.
يناقش طعمة في كتابه همّ المواطن العربي الذي يشعر بالانتقاص من قيمته وقامته في مجتمعه، وحينما يخرج إلى العوالم الأخرى يكتشف أنه متفوق ويزول الشعور بالنقص، إذ يلمس أن لا فروق بينه وبين الآخرين لو توافرت له الظروف ليعمل وينتج ويفكر في تطوير وجوده وحضوره. ويرى أن الإنسان العربي خارج إطارات بلده يؤمن بالقانون والالتزام إذ يعرف أنه يخدمه ويحميه، كما يتمنى أن يدافع عنه ويعمل على أسسه داخل بلده ووطنه ليواجه الأزمات والأخطار، فهو يملك إحساساً فطرياً وطنياً ويعتز بوطنه.
يوضح طعمة في كتابه أن تحليل الخطاب العربي عبر عقود قيام الدولة العربية الحديثة غدا ضرورة لأجل المواطن والدولة ونخبها وقياداتها، مؤكداً أهمية الحوار والبحث للوصول إلى تفاعل وتعايش مشترك والابتعاد عن الإفراط بالقوة واللجوء إلى الحكمة والقانون بعد فشل تحقيق التطلعات الاقتصادية وتدهور البناء الاجتماعي وتأخر الإنجاز العلمي والتخلف الصناعي ووجود الفروق الهائلة بين الشخصية العربية والشخصيات الدولية الأخرى.
في الكتاب إشارة إلى خطورة انتهاء الحلم العربي بالوحدة والقضاء على التضامن العربي وتحول الإخوة إلى أعداء واستيراد كل ما يستهلكه الإنسان العربي، وصولاً إلى السياسة، ما اضطره إلى الهجرة باحثاً عن حياة أفضل لا يجتمع فيها الإنسان بغيره إلا في مناسبات لا تغني ولا تسمن من جوع.
يصوّر طعمة في كتابه الواقع العربي المتمسك بالخطاب الإلهي ثم الديني والإسلامي، بالمفاهيم المتغيرة والمتبدلة، إضافة إلى حواراته مع الفلاسفة والمفكرين والمثقفين والساسة والإداريين ومناقشاته معهم بالخطب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفلسفية التربوية والإعلامية، وحتى الخطاب الجمالي. ويختم كتابه بحوارات مع الطبقة الوسطى التي انهارت في العالم العربي الذي أصبحت مجتمعاته تسعى في سوادها الأعظم إلى لقمة العيش ورغيف الخبز، ولا تجد ما ينقذها مما هي فيه بعد ظهور طبقاتها الغنية كرأسمالية جشعة تعمل على ترسيخ التخلف ضمن مجتمعاتها لتحافظ على نفوذها ومكانتها.
الكتاب يقع في 176 صفحة قطعاً كبيراً، منشورات دار «شرق» 2014.
مراسلات صمويل بيكيت جزءاً أوّل
أصدرت دار «غاليمار» في باريس الجزء الأول من الأجزاء الأربعة التي تضم أكثر من 15 ألف رسالة كتبها صمويل بيكيت في حياته وحرّم نشرها، على رغم أنه كان أكثر تسامحاً مع قراره قبل موته. وفي بريطانيا، طبعت دار نشر كيمبريدج يونيفرسيتي بريس جزءين، ويقول المتخصص في هذه المراسلات دانيل جن إن الجزء الثاني منها أفضل من الأول، «إذ يحضر بيكيت، الذي يسير في ليلة عاصفة حتى ينهك، فيتجلى له تغيير خطابه الكتابي».
الجزء الأول الصادر لدى غاليمار يمكن تسميته «بداية الرحيل»، ويقدم شكوك فنان جديد يودّ التخلّي عن قناعاته المتراكمة، ويفعل ذلك منجذباً إلى الصمت، لكن أيضاً متجهاً إلى الكلمة، رغم أنه يعرف أن «ليس هناك سرد، كل شيء زائف، لا يوجد أحد، لا يوجد شيء».
يمكن للبعض أن يتعلم من هذه الصفحات، إذ نقف أمام إبداع شعري راديكالي يمثله بيكيت الأول، وكان بالفعل كاتباً شاباً.
رسائله المدمرة، التي تدفن بتعمد كل نوع من الحماقات السامية، تعكس صوتاً خاصاً ومميزاً، ونجد فيها الضربات المتتالية، إلى حد أن دور النشر رفضت كتبه الأولى: «كنت مستعداً لتعديل النص، وحتى لتغيير العنوان». في الوقت نفسه، نتشبع من شغفه الذي لا ينفد بالقراءة: «أقرأ كمجنون حقيقي»، وزياراته المتكررة لمتحف اللوفر أو للناشونال غاليري، وصداقاته للأخوين فان فيلد وللرسام جاك يتس، وخاصةً لتوماس ماك غريفي الذي كان خزّان أسراره.
قراءة هذه الرسائل تضاهي رؤية بيكيت، تعبر بقارئها في أماكن ثقافية مختلفة مثل دبلن ولندن وباريس وكاسل، حيث تعيش ابنة عمه ماغي سينكلير التي كان يعشقها، بل تعبر أيضاً في مناظر طبيعية وحارات غريبة. لكن الخروج منها كان دوماً مرهوناً بالنفي.
«كل المجموعات مرعبة»
«لا، يجب أن نهرب من المدينة»
«أنا غريب، لا أريد أن أكون أحداً»
«أنت لا تعرف كيف أكره لندن»
أحياناً، يظهر بيكيت ذا شكوك في قصيدته قبل الأخيرة، أو حبه الأخير، لكنه ليس أمراً يثير الضيق، إذ نشعر به قريباً من هذا المكان الذي بلغه في ليلة حاسمة: ليلة جاءه فيها الإلهام وبدّل حياته على نحو راديكالي.
الجدير ذكره أن صمويل بيكيت، المولود عام 1906، كان روائياً ومسرحياً وشاعراً إيرلندياً، من مؤسسي الحركة التجريبية الأدبية في القرن العشرين، وحركة حداثة الأنغلو. أحد أبرز رموز مسرح العبث، تميزت مجمل أعماله بالتشاؤم والسوداوية. عندما فاز بجائزة نوبل عام 1969 قالت زوجته: «إنها كارثة»، فيما اختفى بيكيت تماماً ولم يذهب لتسلمها!
«سيد قطب والأصوليّة الإسلاميّة» كتاباً بحثيّاً لشريف يونس
صدر لدى الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن مشروع مكتبة الأسرة كتاب «سيد قطب والأصولية الإسلامية» للباحث السياسي شريف يونس، دارساً الأصولية الإسلامية من خلال أحد أكبر أعلام الفكر الأصولي، ومؤكداً «إذا كانت الظاهرة الأصولية ظاهرة اجتماعية فكرية سياسية فإن إعمال العقل في تناولها يجب أن يُطلق أولاً من رفض اعتبارها انحرافاً أو خطأ في التفكير ينبغي تصحيحه». ويحاول المؤلف دراسة الأصولية الإسلامية من خلال حياة أحد أكبر أعلامها وأفكاره، فحياة سيد قطب تثير تساؤلات مهمة حول دوافع الفكر العقلاني وبنيته وعلاقته بأنماط الأيديولوجيا السائدة، ومدى اقترابه مما يسمى الفكرالعقلاني أو العقل المجرد». ومن خلال دراسة الكاتب حياة سيد قطب وفكره تبلور لديه تصور معين لطبيعة أفكار سيد قطب على مدى مراحل عمره التي تركت أثراً عميقاً في كتاباته الإسلامية الأخيرة، إذ حاول المؤلف بلورتها في مصطلح «الرومانتيكية». ويمكن القول إن دور سيد قطب الأساسي في فكر الإسلام السياسي هو بلورة هذه الروح الرومانتيكية بجميع خصائصها، وكساؤها بأطروحة فقهية مكمّلة لها.
الكتاب في خمسة فصول ويتناول الأول «أحلام العظمة الروماتيكية وتحولات الشاعر والناقد الأدبي من الحنين الرومانسي إلى الأصولية الإسلامية»، أما الثاني فيتناول «الإصلاح الاجتماعي والطوبوية السياسية»، ويتحدث الثالث عن «الثورة بين الروح القومية والروح الأصولية الإسلامية»، أما الرابع فعن «إيديولوجيا الصفوة الإلهية وأزمة الإخوان السياسية وتجذير الخطاب الإسلامي السياسي»، والسادس تحت عنوان «بوتقة التفكير» ويتناول فيه نظرية العصبة المؤمنة في التطبيق ومسار الفكر القطبي في السجون وتنظيمات التفكير وأنماطه.
«ميثولوجيا آلهة العرب قبل الإسلام»
ينطوي كتاب «ميثولوجيا آلهة العرب قبل الإسلام» للساسي بن محمد الضيفاوي على معلومات متنوعة وكثيرة، يرى الباحث أننا لو أردنا أن نفهم ديانات العرب قبل الإسلام لا يمكن فهم مفهوم الألوهة بمعزل عن سياق الديانات الأخرى المصرية والسومرية والبابلية والتدمرية والهندية والمجوسية واليهودية والمسيحية. والمعلومات في الكتاب غزيرة ومتنوعة تتراوح بين التراث الجاهلي وتراث شعوب المنطقة ومعتقداتها والعلاقة بين هذين التراثين والديانات التوحيدية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام. ويستند الكتاب إلى كتاب «الأصنام» لابن الكلبي وكتاب «أخبار مكة» للأزرقي، في 240 صفحة قطعاً وسطاً، في منشورات «المركز الثقافي العربي»، الدار البيضاء وبيروت. والكتاب في الأصل دراسة قدمت إلى «كلية الآداب والعلوم الإنسانية» في القيروان في تونس.
الفصل الأول عنوانه «المشهد الديني في الجزيرة العربية قبل الإسلام»، وفي عنوان فرعي هو «معبودات العرب قبل الإسلام» يتطرق المؤلف إلى الجزيرة العربية قائلاً إننا لو نظرنا إلى شمال الجزيرة العربية «نجد الغساسنة من عرب الجنوب القحطانيين، ونقصد قبائل غسان وقضاعة وربيعة، وقد اتبع الغساسنة الديانة المسيحية… أما جنوب الجزيرة فكانت بلاد اليمن التي تنوس بين اليهودية في ظل حكم زرعة بن كعب بن حسان الملقب بذي نواس الحميري الذي اعتنق اليهودية واضطهد المسيحيين في بلاد اليمن والمسيحية التي لم تنتشر إلاّ في عهد النجاشي الذي فتح البلاد ثم اعتنقت المجوسية في عهد كسرى أنو شروان. أما الشرق فكان أحياناً يهودياً في منطقة بني الحارث وحمير من بلاد اليمن وكذلك يثرب المتمثلة في قبائل ثلاث كبرى… بني قريضة… وبني النظير وبني قينقاع حليفة قبيلة الخزرج العربية. ما أفرز فسيفساء عقائدية. الدهريون واليهود والمسيحيون والوثنيون والمجوس والصابئة والأحناف. وكانت قبائل العرب وما جاورها موزعة بين تلك الديانات».
تحت عنوان «الصنمية والصورة المحاكية» يتحدث المؤلف عن «عبادة البشر» موضحاً: «نقصد بذلك تأليه الإنسان أو ما يمكن أن يعبر عنه بنموذج الإنسان المؤله. ومن تجليات هذا الطقس عبادة الإنسان والملائكة والأرواح المتمثلة في الأجداد والأسلاف وذوي الرحم والسادة وأعيان القبيلة…. إن الاعتقاد بالأرواح يشغل حيزاً كبيراً عند الجاهليين، والمراد هو اعتقادهم بأن هناك شيئاً ما يسكن بعض الأشجار والأحجار والكهوف والعيون والآبار والجبال. أي أن هذه الظواهر تكمن فيها قوة خارقة تستطيع التأثير في حياة الناس. فتقربوا إليها بالتضرع والزيارات والذبائح والأدعية والنذور. وطبيعة الأرواح حسب اعتقادهم غير منظورة إلا أنه يمكن أن تبرز وتتجلى في هيئات مختلفة». وعن عبادة الملائكة يقول: «اقترنت في الغالب عبادة الملائكة بعبادة الجن».
في فصل آخر وتحت عنوان «البحث في هوية الإله عند العرب قبل الإسلام» يكتب الباحث: «إن بعض الآلهة تطلق عليها عبارة ملائكة وبعضها تطلق عليها عبارة جن وبعضها الآخر تطلق عليها عبارة إله أو الله أو الرب مع تداخل شديد»، موضحاً أن لفظة إله وردت في كتاب «الأصنام» نحو عشرين مرة. أما في «أخبار مكة» فتواتر اسم الإله نحو خمسين مرة. وورد الكثير من الأسماء المقرونة بايل مثل جبرايل، عذر إيل، كرب إيل، أوس إيل، إيل يهب، ايل يشع… إلى آخر ذلك. ويرى أننا لو أردنا أن نفهم ديانات العرب قبل الإسلام لا يمكن فهم مفهوم الألوهة بمعزل عن سياق الديانات الأخرى المصرية والسومرية والبابلية والتدمرية والهندية والمجوسية واليهودية والمسيحية. ويضيف: «إننا نجد الكثير من الأسماء المتواترة التي حملت كلمة الله مثل زيد الله وامة الله وعبد الله الذي تسمى به والد نبي الإسلام. فلو لم يكن هذا الإله موجوداً فكيف تسمى عبد الله بهذا الاسم؟ وورد لفظ الله في كتاب الأصنام أكثر من عشرين ومئة مرة، وأكثر من خمسين ومئتين مرة في أخبار مكة ». وفي الحديث عن كتاب «أخبار مكة» ينقل المؤلف في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية أنهم جعلوا في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة، فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمان… وصورة عيسى بن مريم وأمه وصورة الملائكة. يقول: «لقد تأثر عرب الجاهلية بما حولهم وخاصة أمور الدين والثقافة والتجارة. فقد أدخل أهل مكة بعد عهد اسماعيل عبادة الأوثان التي استوردوها غالباً من الأنباط في الشمال. ولعلهم لأسباب سياسية وتجارية واقتصادية كانوا يرحبون بكل أنواع الأصنام والأوثان لتشجيع عبادها على زيارة مكة مما أحدث حراكاً دينياً واجتماعياً واقتصادياً. وهكذا تحول الفضاء المكي إلى معرض للأصنام والأوثان حتى بلغت ثلاثمائة وستين صنماً وفق ما جاء في أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار».
«نبض التراب» شعراً لغادة اليوسف
«نبض التراب» مجموعة جديدة من النصوص الشعرية للأديبة غادة اليوسف ذات أشكال متنوعة، إلا أن الموسيقى الشعرية تطغى على بنيتها التركيبية بفضل العاطفة والشجن.
تعتمد الشاعرة اليوسف الشعر الموزون وتفعيلات الخليل، ملتزمة بالأنغام المؤدية إلى حركة سماعية تدفع بالمتلقي إلى محاولة الاقتراب من النص بين يديه، وقصائد التفعيلة أكثر حضوراً في المجموعة، وفيها نص عنوانه «قربان سوري» ونقرأ فيه:
كل المدائن في الغرام مدينتي
ولقد غدوت الضائع المطرودا
لهفي على سقف يلمّ فجيعتي
وجدار ورد لم يكن مهدودا
لكنني القربان.. نذر الأرض عن دنس الخليقة كلها وقرنفل.. عرس الفدا.
قصائد الشطرين قليلة، وتكتفي الشاعرة بنص طويل عنوانه «كفى» تحاكي من خلاله أبا الطيب المتنبي من غير التزام بالبحر الشعري الذي سلكه ذلك الشاعر في نصه، قائلةً:
كفى بك داء أن ترى الذئب راعيا
وحسبك غبنا أن ترى البغي قاضيا
وأفعى يسيل السم من جذرنا بها
ليسقي شباة الدين أحمر قانيا.
تتشبث الشاعرة بالأرض وما عليها من ظلال وارفة وجماليات أبدعت في إشراقة الضحكة المرسومة على الشفاه والمحاكاة بالفرح والنسيم ووجود الأحبة والنجوم، معبرة عن أهمية هذه الأشياء بالتمسك بالهوية المنتمية إلى تلك الأرض. تقول في قصيدة «هوية»:
هل تذكرون أيكتي .. وضحكة تسكبها تلك الظلال الوارفة
تحيك بالرياح والنسيم .. أرجوحة النجوم.
تشكو في نصوصها مما تكابده من هموم، متناولة الشعراء الذين أحبتهم وارتاحت لهم في طرح شكواها الصادرة من ألم الجرح الذي تعيشه في وطنها، إذ تعتبر أن أكثر من يستمع إليها ويقدر آلامها هم أولئك الذين يشبهونها. نقرأ في قصيدتها «نسيب عريضة معايداً»:
«أماه … أين أساوري … شالي وفستاني الجميل… من غال في قيثارتي فرح النشيد … من أطفئ القنديل … أين السبيل لحضنة الوطن المرحل في بيارق نزفه ما بين قابيل وهابيل قتي».
«بلاد الفرنجة» رواية لعادل أسعد الميري
قبل نهاية الرواية يقرّر البطل أن يضع حداً لحياته يوم بلوغه الستين من عمره. يختار بناية في باريس مهمة، ويروح يراقب حركة الداخلين والخارجين إليها، مقرراً الصعود إليها في لحظة انشغال العيون عنه، ليقفز من سطحها، حالماً بذلك الطيران القصير الذي سيفاجئ الناس في شرفاتهم. نهاية منطقية لبطل رواية عادل أسعد الميري «بلاد الفرنجة»، الصادرة لدى دار «آفاق». فالشخص هذا يعيش دوماً ممزقاً بين أمرين، أو أكثر، بين انتمائه إلى الشرق عن طريق أمه الجزائرية، وانتمائه إلى الغرب بحكم فرنسية والده الذي يعمل في مجال البترول، فضلاً عن حبّه الشديد للثقافة والقراءة وكرهه للدراسة. لونه الأسمر يشكل جريمة في مجتمع البيض، وعيناه الزرقاوان تفتحان له الأبواب أحياناً. سلامه النفسي يلقاه مع شقيقته الصغيرة، فشكلها الأقرب إلى مجتمع البيض فتح المجال للأسرة لتدخل المطاعم وتمشي في الشوارع من دون أن تطل نظرة الاشمئزاز أو الاستغراب، بسبب وجود هؤلاء الوافدين. نفوره المفاجئ من النساء وميله المتأخر إلى الرجال، معرفته المرعبة بتاريخ الأماكن في فرنسا، تشي بأنه شخص يعشق الاستقرار. كذلك تصديره الدائم للنفور من هذه الأماكن التي تخفي جواً عنصرياً مقيتاً ضد كل ما هو مغاربي، إلى بحثه عن الألفة وتنقله الدائم بين الأقطار براً وجواً وبحراً.
ليس للرواية بناء واضح، بل هي عبارة عن مجموعة مشاهد متناثرة ومتلاحقة يربطها خيط الرواي الأنا، الشخوص تظهر فجأة وتغادر فجأة، ويمكنها أن تعاود الظهور في ومضات خاطفة تكشف جانباً ولو صغيراً من الطريقة التي تتقاطع بها مع الحياة. تبدو المدن الفرنسية خشبة مسرح ضخمة للراوي الذي يجول فيها، واصفاً شوارعها ومبانيها ومقدماً تفسيرات تاريخية لوجودها، تفسيرات ليست على الطريقة المعلوماتية، بل عبر سرد روائي بديع لبطل يعرف أنه ليس روائياً، لم يكمل تعليمه الجامعي إذ شعر فجأة بأنه شيء زائد عن الحد، لكنه يستمتع في الوقت ذاته بإطراءات الآخرين بأن سلوكه وطريقته في الحديث وتعامله مع الحياة تؤكد أنه ليس أقل من خريجي الجامعات. يعرج البطل على بلاد ما وراء البحر، يتقاطع مع التاريخ الفرنسي الإنكليزي وتلك العداوة بين الشمال الفرنسي البارد والجنوب الإنكليزي الأشد برودة. يهرب إلى الجنوب حيث الشمس، ولديه يقين من أن كل إنسان يحتاج إلى مخزون من الشمس يكفيه بقية عمره. يدور على حانات المثليين حيث يشعر باستقرار روحه. ومع ذلك يهرب إلى أي مكان بما في ذلك مصر.
كي يهرب من مأزق البناء الغريب الذي انتهجه يبرّر عادل أسعد الميري الكتابة بهذه الطريقة على لسان البطل قائلاً: «وجدت نفسي قبل ثلاثة أشهر من الذكرى الستين ليوم مولدي مقرّراً ترك شهادتي حياتي والزمن الذي عشته، بمعدل صفحة يومياً. صفحات متناثرة من حياتي كيفما اتفق عبر ستين عاماً، هي كل ما سيتبقى لاحقاً من حياتي. ليس هناك أي ترتيب مسبق أو منطقي للمواضيع. إنها تماماً المشاهد المتناثرة التي أتحدث عنها والتي لا يجمعها إلا صوت الراوي القوي الذي يعبر عن نفسه بكلمات واضحة الألوان تشتم منها رائحة الشوارع، في كادرات سينمائية شديدة السرعة، لذا لا عجب في أنه قرر إنهاء حياته، إذ وصل إلى يقين بأنه لا يحتاج إلى وقت جديد ليتقاطع مع عالم بهذه البشاعة، ولم يكن أحد ليثنيه عن تفكيره، تماماً كما لم يستطع محامي ميرسول، بطل «الغريب» أن يقنعه بعدم الحديث أمام هيئة المحلفين، فلا شيء يستحق أن نكذب لأجله ولو كان ثمن ذلك الموت».