لوحة كاملة لسير الحقبات
د. محمود شريح
رواد عبد المسيح في روايته «2084»: مذكرات تكوين الهوية واستعادة المساواة 432 صفحة من القطع الكبير، عن دار الفارابي، 2016، الغلاف: سوسن نور الدين يأخذنا إلى المستقبل عبر مذكّرات تضيء واقع الحاضر. إنه السادس من أيار 2061. وقف مسيح بعد ظهيرة ذلك اليوم في باحة حديقته ينظر إلى البحر فيما كانت الأجراس الجنائزية تدقّ في كنيسة مار يوسف في بكفيا. ففي ذلك اليوم نفّذت محاكم الرمداوي العسكرية في بيروت وأقاليم أخرى في المشرق العربي حكم الإعدام رمياً بالرصاص على أنطون الريحاني مؤسّس حركة «مجتمع المشرق» واثنين من رفقائه الأعضاء في الحركة.
على هذا النحو بدأت تتّضح معالم الرواية الاستشراقية الآخذة في آن من تفاصيل الماضي حقائق لا تخفى على قارئ تاريخ المشرق. إذن كان مسيح يعرف أن قدومه إلى المشرق، خصوصاً إلى جبل لبنان، لا يخلو من المخاطر، التي قد تؤدي في أسوأ أحوالها إلى اعتقاله أو قتله، لكنه مع ذلك صمّم على المجيء ليحضر جنازة رفاق والده وقدوته في النضال السياسي يردّنا رواد عبد المسيح إلى ماضٍ غير بعيد ليروي أنه منذ اعتقال أعضاء الحركة عام 2055 إلى وقت إصدار الحكم وتنفيذه، حاول مسيح وزملاؤه جاهدين تهريبهم من السجن لكن من دون جدوى. صلّى المطران حداد على جثامين الضحايا، فالمطران كان من المعجبين بأفكار حركة «مجتمع المشرق».
ولأننا في العام 2084، يردّنا إلى ما حدث في النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين ليضعنا في صورة الأحداث التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم. فمنذ العقد الثاني من القرن اندلعت حركات شعبية تطالب بالديمقراطية ما لبثت أن أدّت إلى اندلاع حروب أهلية طاحنة، ذلك أنّ تراكم الخلافات زمن العثمانيين فالفرنسيين والانكليز إلى حكم الديكتاتوريات تفجّر دفعة واحدة صراعاً مدنياً استمرّ حتى عام 2022، ونجمت عنه فدراليات طائفية وإثنية، إذ كان في أيار 2016 اتفاق سرّي بين الروس والأميركان يقضي بتفتيت دول الشرق إلى أقاليم مذهبية ثم تمّ في تموز 2022 توقيع معاهدة الدوحة، فانقسمت سورية إلى إقليم كردي وآخر سنّي وثالث عسكري، يتناحر في ظلاله الجميع. أما العراق فلبس قبّعه ولحق ربعه، فيما شهد لبنان تفتّتاً لا سابقة تاريخية له.
الروائي عبد المسيح ملمّ بالتفاصيل وهو واعٍ تماماً مجريات الأحداث. وعليه، فهو يرسم لوحة كاملة لسير الحقبات التي تلت مؤتمر الدوحة، ولا يخفي ما قام به مسيح وأعضاء حركة مجتمع المشرق في المنفى، إذ دعا إلى نهضة قومية اجتماعية للخروج من التفسّخ والتضارب والشك إلى الوضوح والجلاء، وديدنه:
نحن أمة واقفة بين الموت والحياة ومصيرها متعلّق بالخطة التي نرسمها لأنفسنا والاتجاه الذي نعيّنه. فالتاريخ لا يسجّل الأماني ولا النيّات بل الأفعال والوقائع.
إلى حادثة اغتيال مالك العدناني في دمشق في نيسان 2055 وإلقاء القبض على مناصري حركة «مجتمع المشرق». إلى قصة النظام العالمي الجديد فالهواتف الذكية، إلى الوحدويين الجدد إلى المسألة اليهودية إلى اجتياح الإسلام أوروبا، فكرّ بصر في ضياع لواء الاسكندرون في 2036 وحروب الخليج لاحقاً، وإن كان هذا في بعض منه واقعاً، فإن خيال عبد المسيح يشطح ليدوّن هجوم مقاتلين على مبنى الأمم المتحدة في جنيف، إلى تفجير هائل في البنتاغون، فسقوط النظام العالمي الجديد واندلاع حروب المشرق الداخلية وردنّا إلى مقولة شاعت للروائي أمين المعلوف: «إن جميع شعوب الأرض في مهبّ العاصفة بشكل أو بآخر. فنحن جميعاً على متن زورق يتصدّع سائرين نحو الغرق معاً. لكننا مع ذلك لا نكفّ عن تبادل الشتائم والمشاحنة غير آبهين بتعاظم أمواج البحر».
ثم ينتقل بنا الروائيّ إلى توثيق صفحة جديدة: «الهلال الخصيب: حيث تشرق الشمس»، وعليها خلاص دول الهلال الخصيب الست من ربق الأنظمة الطائفية والعودة إلى نبوءة إنكيدو في ملحمة جلجامش، وها هي الرواية «2084» مذكرات مخبأة في مكان أمين، فلا تفرّط بها أيها القارئ.
على هذا النحو يروي رواد عبد المسيح قصّة نشأة وتطوّر فكرة الحزب السوري القومي الاجتماعي وحياة مؤسسه أنطون سعاده في سرد ممتع يجنح إلى أسلوب الخيال العلمي، وإن كان الروائي وثّق ما رواه بجدّية معتمداً على غربلة الحدث التاريخي، ما أضفى على «2084» مسحة جمالية ـ واقعية فجاءت على رفّ المكتبة العربية تسدّ ثغرة لا بدّ من سدّها من حيث الشكل والمضمون معاً.
كاتب وباحث