قنديل: تغيّر قانون الحرب جعل الرأي العام شريكاً في صناعة النصر والهزيمة فصارت الحرب إعلاماً جلّول: الإعلام الغربي حرّ إنما الغرب يمنح الحرّية لذاته لا لنشاركه في استثمارها ضدّ مصالحه الشقصي: دراسات إحصائية لمرحلة «الربيع العربي» تكشف حجم الاستثمار على دور الإعلام والتحكم بتوظيفه
عُقدت في العاصمة العُمانية مسقط الأسبوع الماضي، ندوة بحثية متخصّصة تحت عنوان «الإعلام وحروب الجيل الرابع». وناقشت الندوة مجموعة من المحاور المتعلقة بالإعلام مثل حروب الجيل الرابع، وحرّية التعبير في التشريعات والقوانين العُمانية والعالمية، وذلك بمشاركة متخصّصين من السلطنة وخارجها.
قنديل
وقدم النائب اللبناني السابق رئيس تحرير «البناء» ناصر قنديل محاضرة عن «حروب الجيل الرابع»، وعرض الآلية التي اختلفت فيها الحروب في الوقت الحالي عن الحروب السابقة. إذ تساءل: ما هو معيار الفوز في الحرب؟ هل بهزيمة محققة للطرف الآخر؟ موضحاً أنه من الصعب أن يظلّ هذا معياراً صالحاً للاستخدام في الوقت الحالي. وأفاد أن المعيار الذي من الممكن تحقيق الإجماع حوله، هو: هل الجيش أو الدولة التي دخلت الحرب وخرجت منها، هل هي أكثر قدرة على الدخول لحرب أخرى؟ فإذا كانت الإجابة نعم هذا هو الطرف المنتصر، وإذا كانت الإجابة لا فإن هذا الطرف هو الخاسر.
واستشهد قنديل بنموذجين للتأكيد على المعيار الذي حدّده، وهما: حرب تموز في لبنان عام 2006، حيث تكرّست الهزيمة «الإسرائيلية» بالعجز عن الذهاب إلى الحروب بعدها، وبدء الحديث عن الحاجة إلى ترميم ميزان الردع، والنموذج الآخر غزو العراق عام 2003. حيث قال الأميركيون بعده بعجزهم عن الذهاب إلى حروب مقبلة. وأوضح أن هذه معادلة تسمح بتحديد القيمة الاستراتيجية للجيوش.
وخلال المحاضرة، أفاد قنديل أن دور الإعلام وقت الحروب قد اختلف، ففي فترة الحرب العالمية الثانية لم يكن الإعلام قادراً على نقل الأحداث لحظة بلحظة، بل كان ينقل الأحداث في فترات زمنية طويلة. أي أنّ المُشاهد لا يعرف ما الذي يحصل فعلاً في تلك اللحظة. وبالتالي، فإن القيادات العسكرية كانت تملك إمكانية تصحيح الوضع والنتائج قبل أن تصل إلى الجمهور. أما اليوم، فإن الإعلام ينقل كل شيء مباشرة، وبالتالي فإنه يؤثر على الجمهور والرأي العام، وأصبح الجمهور يشارك في صنع القرار، إذ إن القرارات التي تتخذ في الحروب الحالية أصبحت متغيرة، ومرتبطة بردّ فعل الجمهور الذي يتفاعل معها لحظة بلحظة، وبالتالي فإن الإعلام بات مشاركاً في صنع القرار.
جلّول
أما المحاضرة الثانية فقدّمها الكاتب والباحث الإعلامي اللبناني المقيم في باريس فيصل جلّول، وتحدّث فيها عن «مفهوم الإعلام في الغرب». وقال جلول إنّ لحرّية التعبير في الغرب جوانب إيجابية وسلبية. أما الإيجابية فتتمثل في أن تكون الصحافة مستقلة، وأن تتميز بالتعددية، وإمكانية الوصول إلى المعلومة، إضافة إلى الامتناع عن رقابة وسائل الإعلام سواء كانت رقابة ذاتية أو رقابة السلطات.
أما الجوانب السلبية فحدّدها جلول بأنها محدّدة فقط بالوطن، أي أن الصحافة الحرّة للفرنسيين والبريطانيين مثلاً، ولكنها ليست كذلك لغيرهم. وأفاد جلّول أن الإعلام في أيّ بلد حدّه الأهم هو الوطن، ونشأ في حيّز معيّن ليقوم بخدمته، لذا فإننا لا نستطيع لوم الإعلام الغربي حينما لا يتحدث بموضوعية عن القضايا العربية والإسلامية، فأوروبا مثلاً التي تتميز بحرّية إعلامية واسعة منعت بثّ قناة «المنار» اللبنانية مثلاً، وقناة «الجزيرة» تعرّضت للقصف في العراق، وأورد مثالاً آخر بأن التشكيك في المحرقة النازية يمكن أن يحصل في أميركا، بينما هو مُحرّم في أوروبا ويؤدي بمن يشكّك في المحرقة إلى السجن.
الشقصي
وقدّم الدكتور عبيد الشقصي أمين عام لجنة حقوق الإنسان، وأكاديميّ متخصّص في الإعلام ورقة عمل عن حرّية التعبير في التشريعات والقوانين العُمانية والعالمية. وقال الشقصي إن الإعلام في الغرب مرتبط بمحورين، وهما السلطة والاقتصاد، بينما في العالم العربي مرتبط بمحورَيْ السلطة والدين. وأورد مثالاً على ذلك بأن الرئيس الأميركي يصل إلى الرئاسة عبر الانتخابات، وحتى يختاره الناخبون فإنه بحاجة إلى الظهور في وسائل الإعلام، وذلك عبر حملات مكثفة مكلفة مادياً.
وأفاد الشقصي أن هناك دراسة أجريت على مجموعة من التغريدات المنشورة على موقع «تويتر»، وذلك خلال ثلاث فترات، الأولى ثلاثة أشهر قبل بدء أحداث «الربيع العربي»، والثانية قبل فترة قصيرة من بدء الأحداث، والثالثة خلال الأحداث. وركّز القائمون عليها على عدّة متغيرات، ومنها عامل الوقت، والمكان الذي صدرت منه التغريدات هل من داخل العالم العربي أم من خارجه، واللغة، هل كتبت تلك التغريدات بالعربية أم بالإنكليزية. وأفاد أن النتائج أوضحت بأن التغريدات قبل أحداث «الربيع العربي» بثلاثة أشهر كانت صادرة من خارج العالم العربي بالإنكليزية، ولاحقاً تفاعل معها المتحدّثون بالعربية. وقال إنّ مثل هذه الدراسات تثير قلق السلطة عند الاطلاع عليها، وهو خوف له ما يبرّره، ويؤثر على حريّة التعبير بشكل عكسيّ.
وانتقل الشقصي بعدئذٍ إلى التشريعات الدولية والعُمانية التي أكّدت حرّية التعبير، لكنها اشترطت ألا تؤثر على محاور عدّة، مثل الأمن والاستقرار وغيرهما من القضايا الوطنية.
وفي ختام الندوة، كانت مناقشات مفتوحة أدارها الإعلامي الجزائريّ مقدِّم برنامج «ألف لا ميم» في قناة «الميادين» الدكتور يحيى أبو زكريا.
ورقة عمل
في ما يلي، نصّ ورقة العمل التي قدّمها قنديل للندوة تحت عنوان «الإعلام وحروب الجيل الرابع».
مقدمة: كتب كلاوزفيتز: «الحرب هي الاختبار الأقصى للقوّة وطول النفّس، وهي فعل من أفعال القوّة نبغي منه إجبار عدوّنا على الإذعان لإرادتنا، وفي ذلك تسفك دماء كثيرة. إنها مبارزة على نطاق موسّع مع كلّ ما يصاحبها من خطر ومجازفة وانعدام يقين». وكتب يقول: «ما من شيء مؤكد في الحرب، وكل فعل فيها يكون متداخلاً مع قوى ونتائج سايكولوجية بحيث لا يمكن الفصل بينه وبينها». ومن أقواله المشهورة: «قليل من الضباب يمكن أن يحول دون رؤية العدو أحياناً، أو يمنع مدفعاً من الإطلاق في اللحظة المناسبة، أو يمنع تقريراً من الوصول إلى الضابط الذي يتولّى القيادة. والمطر يمكن أن يمنع فوجاً من الوصول، وقد يجعل فوجاً آخر يقضي في المسير ثماني ساعات بدلاً من ثلاث. الفعل في الحرب أشبه شيء بالحركة في محيط ذي مقاومة. ومثلما أن المشي، وهو أبسط الحركات وأكثرها طبيعية، لا يمكن القيام به بسهولة داخل محيط الماء، فإن من الصعب القيام بأبسط الأمور وأكثرها طبيعية في الحرب لبلوغ أبسط النتائج. وفضلاً عن هذا فإن الحرب، بحكم تضمنها وجود خصم يتعمد تمويه نواياه وإخفاءها عنا، تشكّل تفاعلاً متواصلاً بين أمور متعاكسة»
كارل فون كلاوزفيتز هو الضابط البروسي الموصوف بشغف القراءة والتعلّم من خوض الحروب والمسمّى ب«أبي الحرب»، صاحب نظرية أن الحرب لا تحسم إلا عندما تطأ أقدام الجنود الأرض، لا يزال المؤسس لعلم الحرب، ويتبارى المفكّرون والفلاسفة والمنظرون الاستراتيجيون في البحث في الاستراتيجيات والفنون والتقنيات والتوصيفات والخطط، وهي تفاصيل في علوم الحرب، لكنها ليست علم الحرب نفسها.
لا يزال ما كتبه كلاوزفيتز في توصيف الحرب كاختبار لتوظيف أقصى القوة لمكاسرة الإرادات، وحاجة ذلك إلى أقصى درجات الصبر والتحمّل وسفك الدماء صالحاً، كما لا يزال كلامه عن ضياع العدو في الضباب، وتوصيف الحرب كتلازم لأمور متعاكسة، أوصاف ومعادلات تختصر إطار البحث الذي نحن بصدده حول أجيال الحروب، وما نبتغيه من البحث من محاولة لفهم نمط جديد منها، يلعب الإعلام الذي رافق الحروب في كل مراحلها وأجيالها، دوراً يتقدّم على السلاح والجنود والجيوش، بعدما كان يقف خلفها وإلى جانبها، ويمهد لتقدّمها ويستثمر نتائج هذا التقدّم.
ليس مهماً أن يكون ما نتحدّث عنه يصلح فيه وصف الأجيال الرابع أو الخامس أو السادس، وقد تعدّدت التوصيفات لدى الباحثين في تعريف الحرب التي تقوم على الإعلام، وهي موضوعنا، جيلاً رابعاً أم خامساً أم سادساً طبقاً للمعيار الذي اعتمده الباحثون في بناء هرمية التسلسل، وهي هرمية ستتضح هشاشتها العلمية بمجرد اكتشافنا أن كل الحروب هي خليط مما يوصف بالأجيال المتعاقبة للحروب، وما يتغير، نِسب المكوّنات في كل خلطة، حيث للجيوش دور، ولكثافة النار دور، ولحروب العصابات دور، ولتطوّر التقنيات الرداعة دور، وللإعلام دور، وهي العناصر التي جرت تقسيمات الأجيال على أساسها، ولذلك سيكون من الأفضل تجنب الترقيم والتركيز على المضمون أملاً بالوصول لتوصيف غير مرقم في نهاية البحث للحرب التي نحن بصددها.
مرتكزات وثوابت
تمتّعت حروب البشر في أشكالها البدائية بقدر أعلى من المشروعية التي تختزنها حروب اليوم، في زمن ما كان فيها مكان للحدود والدول والكيانات وكان التسابق فيها على مواطن الرعي وموارد الماء وحضن الدفء بدافع غريزة البقاء والاحتماء من قساوة الطبيعة، وما كانت حروبا للطمع وشهوة السلطة وتخزين الثروات والسيطرة على الأسواق، فكان صعباً تحديد معتد ومعتدى عليه بسهولة، بينما مع حروب البشرية في عصور تشكل الدول والكيانات وتوفر الثروة وفوائض الخير طعاماً ولباساً ومسكناً، صارت الحروب المشروعة للدفاع عن حق قابلة للتمييز عن الحروب غير المشروعة لسلب حق، وصار بناء القوة لحماية الحقوق قابلاً للتمييز عن زيادة فائض القوة لمراكمة المكاسب.
لا يتناسب التطوّر البشري الأخلاقي والقيمي مع التطور في مجال المعارف والتقنيات وصناعة السيطرة على الطبيعة والنجاح بتحويل تحدياتها إلى فرص، وبالتالي تقدم فرص الرفاه والأمان، الرفاه بتراكم الخيرات وتسهيل شروط الحياة والعيش، والأمان من البرد والحر والقسوة في الشحّ والمواسم والخوف من المرض، والسيطرة على الخوف من الفائض في المطر، وسواها. وبالتالي لا يستقيم الحديث عن تطوّر الحضارة الإنسانية بقياس أحاديّ مبنيّ على تطوّر التقينات ووسائل الحياة والرفاه والمعارف العلمية، الذي يجري منذ آلاف السنين هو العكس تماماً. فمع التقدّم في المعارف والتقيات وتطوّر حدود الحق، بتنظيم حدود الدول وحقوقها، زادت وسائل الحرب وخططها وعلومها، وزاد التوق إلى خوصها، والإنفاق للفوز بها، وحشد الناس للموت في أتونها، والاستهانة بالعمران لتبديده في فورانها. ولو قرأ البشر جيداً نهايات حروبهم، لاكتشفوا كم كان سهلاً بلوغ هذه النتائج من دون التورّط بما خاضوه من حروب، كانت في غالبها حروب المعتدي والطامع والمستعمر والمحتل، تماماً كما هي حروب الاقتصاد يخوضها الأغنياء وفقاً لمعادلة الآية الكريمة: وَهَلْ أَتَـكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الِْمحْرَابَ 21 إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْض فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَطِ 22 إِنَّ هَـذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ 23 قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّـهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ 24 فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مئَاب 25
ـ تتركز اهتمامات الدول على تجميع عناصر القوة لتمتلك الجاهزية اللازمة للحروب سواء كان في الدفاع أم الهجوم أم العدوان، لكن الحرب تتمظهر كمسرح ومنصة لتسييل ما تراكمه الدول من فائض للقوة، كاف لتصنع نصرها وفي معادلات الحرب الحديثة حيث لم يعد الفناء أوالإستسلام لأحد طرفَي الحرب شرطاً لإنهائها، يصير النصر مشروطاً بالقدرة على تحويل فائض القوة إلى قيمة مضافة قبل أن يتآكل فائض القوة، ويصير عبئاً وتبدأ الحرب التي تكون قد انتهت بالنصر بالانقلاب إلى هزيمة، والقيمة المضافة هي الحصول على الاستقرار المكرّس بنصّ سياسيّ، وبشرعية دستورية، تعبّر عنها صيغة الحكم القائمة في مسرح الحرب أو صيغة جديدة تنتجها الحرب وتكتسب الشرعية وتصنع الاستقرار، وفي كل حال على هذه الصيغة أن تحقق للمنتصر مكاسب سياسية واقتصادية واستراتيجية تحظى بالقبول في البيئة السكانية التي تدور الحرب بين ظهرانيها، وهذا التعقيد أصعب من الفوز العسكري بالحرب نفسها، والفشل فيه كفيل بتأكل مصادر القوة وتحوّلها إلى عبء وانقلاب مشهد النصر إلى هزيمة. ومثلما يتحوّل فائض القوة إلى قيمة مضافة تتحوّل القيم المضافة إلى فائض قوة، كالتبشير بقيم نبيلة كالديمقراطية والحرّية والتحرّر وحقوق الإنسان، وتمنح من يجعلها شريكاً في حربه تفوّقاً أخلاقياً سرعان ما ينجد ميادين الحرب بمصادر قوة جديدة تتحول إلى فائض قوة قد يغير من مجريات الحرب. وكثيراً ما تتشكل من القيم المضافة التي يتحصن خلفها المحاربون موازين قوى خفية، تتحكم بمسار الحرب، فالتاريخ والجغرافيا بعض منها أيضاً، ولا يلبثان أن يدخلا مسرح الحرب كلما طال أمدها وتكفل الفائض المتاح من القوة بمنحهما الزمن اللازم للاستنهاض والدخول إلى الميدان، بزجّ قوى لم تكن في ساحة القتال لتصير مقرراً فيها، على شكل حضانات شعبية وسياسية يوفرها تدخل التاريخ، وتحالفات تستنهضها الجغرافيا، وهذه بعض من متغيّرات قانون الحرب التقليدية، حيث أهداف الحرب تشكل استفزازاً لمنظومة قيم تاريخية أو لمنظومة علاقات إقليمية فتستدرج التاريخ والجغرافيا كقيم مضافة للتحوّل إلى فائض قوة، وتصير الحركة التفاعلية بين فائض القوة والقيم المضافة علامة يمكن الاستناد إلى درجة مرونتها في حال كل دولة وقوة لمعرفة سلّم القوى الصاعدة من القوى الآفلة، بقياس ربط صعود الأمم والقوى والدول بهذه الدرجة الأعلى من التبادلية والتفاعلية بين فائض القوة والقيمة المضافة.
الأهم من تغيّر أدوات الحرب وخططها وتقنياتها، هو التغير اللاحق بمفاهيمها وقوانينها، وهو الذي يفرض في مساراتها المتبدلة والمتغيرة، تغييراً بتقنياتها وأدواتها، واستراتيجياتها، فالقدرة الاستراتيجية للدول لم تعد تقاس بالقوة الصافية لجيوشها فحسب، بل إن القيمة الاستراتيجية للجيوش صارت تقاس بمدى قدرتها على تمكين صانع القرار في دولها، على اتخاذ قرار حرب، وإلا صار الرجال بطالة مقنّعة، وصار السلاح أكوامَ معادن تصدأ مع كل جيل جديد من السلاح تستدعي تحديثاً بانتظار صدأ جديد، تموّل من عمران البشر وحقوقهم بالرفاه، ومن يراقب هذا المفهوم للقيمة الاستراتيجية سيكتشف أن غالبية دول العالم مجرد مستهلكة لعمرانها في بناء جيوش بلا قيمة استراتجية، لأن درجة امتلاك قادتها قرارَ حرب تكاد تقارب الصفر، وأن الدول الحكيمة هي التي تدرك درجة قدرتها على خوض الحروب ودرجة تمكنها من أخذ قرار حرب، فكلما تبين لها انخفاضهما تقوم بخفض حاجتها للجيوش والإنفاق عليها إلى أدنى الحدود الواقعية، واعتماد الحكمة والحنكة في السياسة والدبلوماسية والتموضع في مناطق الأمان لتفادي اختباراتها المُرّة والمؤلمة.
من مفهوم قياس القيمة الاستراتيجية للجيوش يولد مقياس جديد للنصر والهزيمة، التي لم تعد سهلة القياس كما كانت بتدمير الجيوش المقابلة وإعلان استسلام الدول، وهذه النتائج غابت عن مسارح الحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا ما ندر، وقد تكون حرب العراق آخر المشاهد السريالية في هذا النوع من الحروب التي انتهت بنصر ظاهر وفق المعايير التقليدية، بتدمير الأميركيين الجيشَ العراقي، وتفكيكه، والسيطرة على جغرافيا العراق وإسقاط نظام الحكم فيه، واعتقال الحاكم وإعدامه، ثمّ قراءة نصّ أميركيّ في وثيقة تاريخية وقّعها الحزبان الحاكمان معاً، عبر رئيسَي كتلتيهما في الكونغرس وعرفت بِاسميهما، لي هاملتون وجيمس بايكر، لتبهرنا وثيقة بايكر هاملتون بالقول إنّ أميركا خسرت الحرب، وتكون الحاجة إلى مقياس جديد، للهزيمة، رغم عدم وجود منتصر، وفيما يذهب الكثيرون لرصد مفهوم يقوم على ربط النصر بتحقيق الأهداف المرسومة للحرب، ما هو مباشر وما هو غير مباشر منها، وهنا يصير القياس معقداً، بضياع مفهوم الأهداف بين المعلن والمضمر، وبين ما رسم للحرب وما حققته موضوعياً، بينما يبدو التعريف الأدق والأقرب إلى معايير العلوم الاستراتيجية، هو بالاستناد إلى ذات مفهوم تعريف القيمة الاستراتيجية للجيوش بقدرتها على منح حكوماتها القدرة على اتخاذ قرار حرب، ليصير النصر علامة الفوز بالحرب، أي رفع القيمة الاستراتيجية للجيوش المنتصرة، وهذا معناه رفع منسوب قدرة حكوماتها على خوض حروب جديدة، وهذا يفسّر معنى الهزيمة التي يتحدّث عنها الاستراتيجيون والساسة في أميركا في حربَي العراق وأفغانستان، لأن الحصيلة كانت تراجع القدرة على خوض المزيد من الحروب، وهذا المقياس نفسه يفسّر أيضاً معنى الهزيمة أو الفشل اللذين تحدّث عنهما التقرير «الإسرائيلي» الذي حمل اسم رئيس لجنة التحقيق في فشل حرب تموز 2006 على لبنان، وعُرف بِاسم تقرير «فينوغراد».
من هذا المفهوم للنصر والهزيمة، يسقط حساب العلاقة بينهما وبين حجم الخسائر العسكرية، بالقياس لحروب مماثلة خاضتها الجيوش ذاتها، ليظهر دور المجتمعات وتطور دينامياتها الثقافية والسياسية والسيكولوجية، في تحديد درجة التحمل التي أشار إليها كلاوزفتز في تعريفه للحرب، تحمل الوقت وتحمل سفك الدماء، ببعدَي درجة تحمل بذل دم الجنود، ودرجة تحمل سفك دم الضحايا، وهنا نفهم معنى كلام دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي الأسبق ومعاونه بول وولفوفيتزعن حرب خسائر صفر، ومثلهما كلام دان حالوتس رئيس أركان حرب «إسرائيل»، الذي جيء به من سلاح الجو لهذه المهمة، وفقا للنظرية ذاتها، أن التقنيات باتت تتيح خوض حروب من الجو، بخسائر صفر، وأن زمن كلاوزفتز قد انتهى فقد صار ممكناً للحرب أن تحسم قبل أن تطأ اقدام الجنود الأرض، وقد تكفلت حربا العراق ولبنان، بردّ الاعتبار لمفهوم كلاوزفتز وإثبات الحاجة للعمليات البرية وما فيها من دماء ووقت، اي من حاجة لقدرة التحمل، للفوز بالحروب، وهو ما اختصرته معادلتان معبرتان، لكل من رامسفيلد وموشي أرينز، وزير الدفاع الأسبقين لأميركا و«إسرائيل»، وتشكلان منفذاً على موضوعنا حول حروب الإعلام.
من إعلام الحرب إلى حرب الإعلام
يقول رامسفيلد إن الفارق بين حرب العراق وحرب فييتنام وقبلها الحرب العالمية الثانية، هي في موقع الإعلام من هذه الحروب، فالنقل المباشر الذي يواكب الحرب، وسرعة تدفق المعلومات والصور، قياساً بزمن تدفقها كان يصل حتى ستة شهور في الحرب العالمية الثانية على شكل أفلام قصيرة لعشر دقائق تعرض في دور السينما قبل عرض الأفلام التي يقصدها رواد السينما، جعل المجتمعات وقوى الرأي العام شريكاً في صناعة قرار الحرب ومواكبة تقلباتها وما يرافقها بالسرعة ذاتها التي يملكها صاحب القرار، بينما كان الفارق الزمني يتيح لصاحب القرار معالجة وإزالة ما سيحرك الرأي العام سلباً قبل أن يصل إليه، إضافة إلى قدرته على التحكم بتحديد ما يصل وما لا يصل للرأي العام، وهذا التفاعل السريع جعل أميركا عاجزة عن مواصلة حرب العراق بعد سنتين من بدئها تناقش وقفها وهي لم تخسر إلا ما كانت تخسره في شهر من حرب فييتنام، وعدداً من الآليات يعادل ما تنتجه مصانعها في يوم واحد، ويختصر أرينز ما يقوله رامسفيلد بوصفه لما فعلته ثقافة العولمة التي أريد منها إسقاط العقائد والوطنيات، من سقوط لروح التضحية وصعود مرضي للفردية، لدى القادة ولدى الشعوب، فيقول: «بتنا دولة وشعباً وجيشاً نريد نصراً بلا دماء ولهذا خسرنا الحرب».
تكشف الحروب الأميركية و«الإسرائيلية» المعاصرة، في القرن الواحد والعشرين، أن تفاعل قوى الرأي العام في ما يسمونه بالجبهة الداخلية كان محورها العجز عن مضاهاة خصم قادر على تحمل بذل الدماء والوقت، وأن تفاعل الرأي العام العالمي مع طول وقت الحرب يصير أشدّ تأثراً بعبء دم الضحايا، ولذلك دخلنا مرحلة محورها البحث في كيفية معالجة هذا الخلل، للفوز بالحروب، وهي معضلة العقد الأول من هذا القرن، لتتقدم نظريات الحرب القائمة بتوظيف من هو قادر على تحمل بذل الدماء بما يوزاي قدرات الخصم أو يفوقها، ومن يمكن أن تلقى عليه أعباء دم الضحية من دون أن يدفع صناع قرار الحرب ثمنها أمام الرأي العام في بلدانهم أو في العالم، بل يشاركون في الإدانة إن لم يتقدموا صفوف توصيف من يقاتل بالنيابة عنهم بالإرهاب، ويباهون بإعلان الحرب عليه، هكذا وجد الغرب و«إسرائيل» ضالتهم الثقافية والفكرية والسيكولوجية، وبات عليهم تصنيع مسرح الحرب، وايتكار أدواتها ومنصاتها.
لا يستقيم سيناريو الحرب بالوكالة المطلوب إسناده إلى قوى لا تشبه الغرب فكرياً وثقافياً واستراتيجياً، من دون إعادة صوغ الهوية لشعوب الشرق المستهدفة بتطلعها للحرية والكرامة والسيادة، يتناسب مع تحويل وجهة الاستقطاب بين احتلال ومقاومة، بين وطني وخائن، بين تقدّمي ورجعي، إلى استقطاب يصير الإرهاب فيه جيشاً يدّعي حماية مكوّن من مكوّنات المجتمع الذي يشعر بالتهديد، ويصير فيه العدو هو كل مكوّن آخر، وهذا يستدعي إعادة صوغ للهوية، التي يعرف الناس مجتمعاتهم عبرها، فلا يببقى المجتمع معرفا بهويته الوطنية والقومية، بل تسنتهض هويات ثقافية اجتماعية كامنة، لتصير هي الهويات المهيمنة، ويصير تعدّدها سبباً للخوف المتبادل، بدلاً من أن يكون عنواناً للغنى الثقافي، ويستدرج الجميع لدخول سوق البيع والشراء في القتنة، من يدري ومن لا يدري، وتنتصب خطوط تماس جديدة لحروب جديدة، ودفاعاً موهوماً عن هويات جديدة، ويصنع أعداء جدداً، ويصير عدو الأمس حليفاً.
هذا هو جيل الحروب الجديدة، جيل الحروب لتغيير الهويات، وصوغ الدول والشعوب مفهومَها عن ذاتها ولرسم عناوين أولوياتها، لكن مشكلة هذا الجيل بتردداته وأعراضه الجانبية المرافقة، فزمن الحرب الذي يستننزف الموارد، فمن جهة أولى ستستنزف الحرب الطويلة القدرة على التستر على التورط مع الإرهاب وتوفير الحماية له، وسرعان ما تصير المعلومات السرّية بتصرف الرأي العام، ويصير عبء الضحايا أشد ثقلاً، ومن جهة ثانية سينتفض الوعاء الثقافي الذي يستظل به الإرهاب لردّ الاعتبار إلى قيمه واعتداله وتسامحه، وتفاخره بالتعدد، وتنشأ معطلات ومكابح لثقافة الفتنة تنزع عن الإرهاب مشروعيته الأخلاقية المدعاة، ذات شرعية أعلى منه مكانة في الوجدان الجمعي للأمم، ومن جهة ثالثة ستتحرك الدولة الوطنية كمدافع عن الهوية المهيمنة المستهدفة بالتعطيل لحساب هويات ثانوية تفتت الوحدة كانت كامنة حتى الأمس ترتضي صفتها كهويات ثقافية، وتنتفض القوى العميقة للدولة من نخب ومؤسسات لتأكيد حضورها ودروها لحماية الكيان الوطني ومفهوم فكرة الدولة، كعقد اجتماعي حضاريّ مهدّد من «تغوّل» التخلف والتوحش والبدائية، ومن جهة رابعة سيغري طول الحرب وتوفّر مواردها الكيانات الإرهابية ببلورة مشروعها الخاص ومناطق هيمنتها وسيطرتها وتنظيمها حسابَها، وتطوير جينات ثقافية جديدة لا تدين بالولاء للمشغل الرئيس، وتنفصل عنه، وتستعيد ثقافتها الأصلية لتعامل مجتمعاته كعدو مستهدف، وتنظر للحرب نحو مجتمعات الغرب كمصدر للمشروعية لسائر الحروب، ومن جهة خامسة سرعان ما يرتب طول أمد الحرب تفاعلات إجتماعية من نزوح وتهجير، ومن استنهاض للجماعات المهاجرة بهوياتها المدعاة للبلدان المضيفة لتستعيد هويات كامنة تعامل على أساس عنصري بسببها يتيح جعل الإرهاب جيشها أكثر مما يجعله جيش الشرائح التي يدعي الدفاع عنها في الشرق، فتهدد الحرب الأهلية بالاندلاه بصيغة حرب مهاجرين وسكان أصليين في الغرب نفسه، حيث تبدو البيئة الحاضنة للتطرّف مؤسسة على عناصر صعبة التعطيل.
حرب الجيل الجديد هي فرانكشتاين جديد، سرعان ما سيتلهم صاحبه ومشغّله ويفخّخ نفسه، إذا لم ينجز المهمة بسرعة، نجاح هذه الحرب رهن بأن تكون حرباً خاطفة وحاسمة، وأصل اللجوء إليها هو أن زمن الحرب الخاطفة والحاسمة قد صار وراءنا كما قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون في خطابها أمام اللوبي الصهيوني في تجمع «آيباك» في آذار 2010 عندما بشّرت بمستقبل قاتم ينتظر «إسرائيل» ما لم تبادر إلى السلام، لتعود بفضل الزمن وإرادة البشر الكلمة الفصل في الحروب لتلازم الحق والحقيقة، وقد تهنا كثيراً في محاولة وضعهما في وجه بعضهما، وآن الأوان لنتعلم أن الحقّ والحقيقة يتكاملان.