قصيدة عبد القادر حصني… لوحة متكاملة

دينا خيّاط

من بقايا جمرٍ، من رعشةٍ وغناء. تولد القصيدة عند الشاعر عبد القادر الحصني، والتي ينحاز إليها، لأنها معنى وجوده، مثلما هي حضوره الجمالي الخالد بين «البقاء والنقاء»، شعراً يتفرّد بأصالته المميزة، شأن كلّ حالةٍ إبداعية.

وأنّى تجوّلنا في رحاب عالمه الشعري ، نجِدُنا دائماً أمام هذه الأركان: النّفَس التصوّفي الرهبة الكونية الوطن الممزّق و«الأنا» الضائعة بحثاً عن الذات والشعر والتسامي معاً.

ويمكننا أن نضيف إلى معالم الركن الأخير ـ «الأنا»، أنها إذا عانقت الحزن، فهي أبعد ما تكون عن الكآبة بل إن فيها حضوراً حسيّاً دافقاً، خاصةً في حالة الحب، فالحبّ طقس عبادةٍ وخلق، يترافق مع وجود النزعة التصوفية المتسامية.

حتى في غمرة الألم، هناك حضورٌ كثيفٌ لجميع الحواس: السمع، والنظر، والشم، والذوق، واللمس. وهو حضور حسّي جميل بكلماته الموحية المنتقاة وهذا ما يؤكد تفرّد الحصني في هذا المجال، بما أعاد إلى الكلمة الشعرية، إضافة إلى التعبير والإيحاء، شكلها الجميل، وجهها الصافي، من دون ديباجة إنشائية مطنطنة، وبعيداً عن جميع أركان البلاغة المستحاثة.

على أن القصيدة الحصنية تعتمد في معماريتها، إضافة إلى فيض الأحاسيس المتجسدة في كلمات جميلة، على أركانٍ رديفة يمكننا تبويبها على التوالي: وحدة الصورة الشعرية على امتداد القصيدة المنحى الأسطوري أحياناً التضمينات أو التناص باستمرار وتأرجح الوجدان الشعري بين التراث والحداثة. فقصيدته لوحةٌ متكاملة، من دون الضياع في متاهة «التعبيرات المصوّرة»، لأنه يركّز على نضارة التعبيرات الحسّية.

ولا ينتهي الحصني في قصائده من التضمين والتناصّ، إلا في خلقٍ جديد، ومن بعد تمثّلٍ شديد الخصوصية. فيمكننا قراءة هذه الحالة من خلال التأرجح الإبداعيّ بين المدّخر التراثي الكامن في أعماق اللاوعي وبين النزوع الواعي وهو لدى شاعرنا، نزوعٌ راسخٌ إلى الحداثة بفعل موقفٍ فكري وجمالي اختياري، إضافة إلى القراءات الكثيرة في هذا الميدان. هذا التأرجح في عفوية وصدق مع النفس ميلاً إلى القديم حيناً، وإلى الحديث حيناً، وإلى الإبداع الأصيل دائماً، هو ما يجعل الحصني، من دون أدنى تناقض، ينتج القصيدتين: العمودية والمرسلة، على حدّ سواء.

أما عن نشأة الشاعر عبد القادر محمد الحصني وحياته، فهو شاعر سوري معاصر ولد عام 1953 في مدينة حمص، ولم تكن طفولته تشبه طفولة الأطفال الآخرين، من خلال علاقته بالطبيعة وتأمله الطويل لها، فبينما الأطفال يلعبون ويمرحون، كانت تدور في ذهنه الكثير من الأسئلة حول موجوداتها كالنهر والأشجار والأحجار التي لم يعرف إجاباتٍ عنها. هذه الهواجس كلّها جعلته يحتفظ في داخله بالكثير من الشعر غير المكتوب، فتمتلئ أعماقه بعوالم يمتزج فيها الواقع بالخيال. وأخذ يصوغ العالم على النحو الذي يريد ويتخيّل، لكن أهله في البيت لم يفهموا حالته باستثناء والدته التي كانت تعرفه بعمق، وكانت تعرف أنه شاعر فتقول له لتخفّف من غضبه منهم: «هناك فرقٌ بين الشاعر ومن يكتبون الشعر… فهؤلاء الذين حولك يكتبون الشعر، أما أنت فقد تكون شاعراً». وهكذا، شكّلت هذه المرحلة من الطفولة الينبوع الأول من ينابيع الشعر عنده. والينبوع الثاني الذي رفد شعره، يتمثل بعلاقته بجدّه. ذلك الشيخ الصوفي، وكما هو معروفٌ عن الصوفيين علاقتهم مع المطلق، تلك العلاقة الملوّنة التي تدخل فيها الموسيقى والغزل والشعر والحب، وهذه الحالة الروحانية المزينة بالقصص الخيالية كقصص الكرامات والأنبياء والأولياء والعواطف الوجدانية، لأن الصوفيين يعبّرون عن عواطفهم ووجدناهم بأشياء حسّية جمالية.

وخلال رحلة العمر، التقى الحصني برجالٍ على درجةٍ عاليةٍ من الروحانية والنقاء والبصيرة. هؤلاء، إضافة إلى ثقافته الصوفية، حاضرون في حياته وفي تجربته الشعرية، ما جعله تلميذاً نجيباً يستطيع أن يخفي إلى حدّ كبير آثار تأثيرهم. لثقته بالـ«أنا»، وبأنه كائنٌ جديد ويرى الأشياء برؤية جديدة. فالإنسان لا يستطيع أن ينفكّ مما عرف أو مما سبقه. فما حدث حدث، وما كان كان، ولكن المأثرة العظيمة والكبيرة لكلّ إنسان، ماذا يقول هو، بعدما رأى وعرف كل ذلك.

والشاعر الحصني يعتبر أنه لم يكن في يوم من الأيام من مهمة الشعر أن يغيّر وجه التاريخ، أو أن يقلب أوضاعاً سياسية أو اقتصادية، لكن هماً كبيراً من هموم الفن هو استقلاب الإنسان، الفنّ دائماً يريد أن يوقظ الإنسان على إنسانيته الأعمق، لنقل على الصورة الأولى لوجوده في هذا العالم. لاعتقاده أن الشعر يذكّر الإنسان بأنه كان في يوم من الأيام شجرة أو ليلاً ونجوماً وقمراً. أنه كان هذا العالم. أنه كان في بدائيته يغنّي فيعود الصدى إليه فيظنّ أن العالم يغنّي معه، ولكن كيف فقد هذا؟ هنا يأتي دور الشعر في إيقاظ الإنسان على إنسانيته.

أما الموت، فهو لا يشعر بأيّ فجائعية تجاه الموت، سواء موت من يحبّ، أو موت شخص يعرفه. ولا يعتقد أن الحياة تنتهي بتوقف هذه الجثة عن الحركة. بل يظنّ أن هناك حيوات كثيرة ستتعاقب ولكن لا يعرف كيف. ويشعر أن الموت قاربٌ جميل يأخذنا إلى المحطة التالية ولا بدّ من متابعة الرحلة، وفي بعض الأحيان يشعر بسعادة أن يصل إلى هذه اللحظة ليتعرف إلى باقي المشوار. وفي رؤيةٍ يتخيل فيها الكيفية التي سيغادر بها هذه المرحلة من الحياة.

ويرى الحصني أن سورية سوف تعود أجمل مما كانت، في مستقبل بلا أحقاد، وحياة مفعمة بالأمل والحب وازدهار الفن.

نشر الحصني عدداً من الدراسات المتفرقة، إلى جانب ما نشره من شعر في مختلف الصحف والمجلات. وحصل الحصني على جائزة الشعر الأولى لثانويات حمص 1970، ولجامعة دمشق 1974، وتناول شعره بالنقد والدراسة أكثر من ثلاثين ناقداً وشاعراً .

هذا الرجل الذي كتب فكانت كتاباته تكاد تنفرد عن غيره من أبناء جيله، لِما تتسمّ به أشعاره من سماتٍ فنية حداثوية قد تختلف عن غيره ، وهذا ما جعله ـ ربما ـ من المقلّين الذين يتورّعون قبل نشر ديوانٍ شعري، واضعين نصب أعينهم ذاك القارئ المثقف الذي ينتظر دائماً الأفضل والأجمل.

نصّ الكلمة التي ألقتها الإعلامية الشاعرة دينا خيّاط، خلال أمسية أقامها «الملتقى الثقافي اللبناني»، للشاعر عبد القادر حصني، وذلك بحضور شخصيات أدبية وثقافية وشعرية وإعلامية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى