«أحبّها… ولكن» للدكتورة مها خير بك… الخطاب الإبداعيّ بوجهه الرمزيّ

د. لؤي زيتوني

رواية «أحبّها… ولكن» للدكتورة مها خير بك، خطاب أدبيّ متكامل يقدّم لنا في طيّاته مستوىً رمزياً غنياً يرشدنا، بنتيجة الأثر الذي تحدثه فينا، إلى مكنونات الكاتبة ورؤيتها إلى الوجود والمجتمع. والرواية يقع تصنيفها ضمن المذهب الواقعي، تتناول حياة سيدة مجتمعٍ تدعى «نور»، تحاول أن ترافق تفاصيل حياتها ابتداءً من حضورها في كنف رجل أعمال باكستاني يعمل على الإقامة معها في بيروت لتأسيس شركة فيها، ثم حملها، وتواري زوجها عن الأنظار حتى لا يُقلق «نور» أو لا تراه في حال بائسة، وإنجابها طفلاً سمّته على اسم أبيه «جاد»، مروراً باكتشافها أنها وشقيقها المتوفى ابنان متبنّيان، ومعرفتها عائلتَها الحقيقية، وإقامة روابط معها كذلك معرفتها بوضع زوجها وعودته بعد أكثر من سنة، بعد أن كان قد أكمل علاجه وطبابته. وصولاً إلى اكتشاف والدة أخيها الحقيقية وربط أسرته بها. لكن هذا لم يمنع من أن يحمل هذا العمل السرديّ رموزاً واضحةً ومؤثرة في بنية الرواية وفي تلقي العمل على السواء.

بالنظر إلى العنوان، فإنه يحضر بمكونين: الأول عبارة عن جملةٍ خبرية فعليةٍ تامة من فعلٍ مضارعٍ يعطي إيحاءً بالآنية، أي بحضوره في الزمن الحاضر وفاعلٍ متكلم يعمد إلى الاعتراف بحقيقة مشاعرها، إضافةً إلى مفعولٍ به غائب يمثله الضمير المتصل «الهاء» مشيراً إلى طبيعته المؤنثة. من حيث الشكل، تبدو الجملة تقليديةً إلى أبعد حدّ، إذ إنها تُظهر تعبيراً عن شعورٍ إنساني طبيعي وبالتالي فإنها لا تثير إلا تساؤلات حول حقيقة هذا العاشق وتلك المعشوقة، لكن هذه التساؤلات تدور في سياقات متشعبة، فهل من المؤكد أن الفاعل مذكرٌ؟ وإن كان كذلك، فهل هو عشيق مغرم أو حبيب قريب أو غيره؟

على أن المكوّن الآخر من العنوان، «ولكن»، يشير إلى استئناف الكلام، وهو الأمر الذي يدلّ على أن الجملة الأولى لا تشي بالتقليد، إذ إننا ننتظر ماهية ما ينبغي استكماله حول هذا الحبّ. ويعزّز هذا حرف الاستدراك الذي يحيلنا إلى منحى مختلف عمّا نعثر عليه في الجملة الأولى، ولذلك نقف هنا أمام تساؤلاتٍ أكثر تشعباً: هل هناك ما يمنع هذا الحبّ؟ وهل هناك لغط حول طبيعة هذا الحبّ؟ وهذا ما يدخلنا في شك حول طبيعة المتكلّم وحول طبيعة المفعول به نفسها ويحول ذلك العنوان إلى احتمالاتٍ دلاليةٍ.

في هذا السياق، يتمكّن القارئ من التقاط الإشارات التي جعلت من الزمن رمزاً بحدّ ذاته، بأبعادٍ متنوّعة. فهو الزمن العربي الذي يرمز إلى الذلّ والخنوع، وهو الزمن المتغيّر الذي امتلأ بكل أنواع الفردية وسيطرة الأنا بعدما كان الزمن السابق عابقاً بروح الانتماء كما أنه الزمن العام الذي يرمز إلى الحرب ومفاعيل ما سمي بـ«الربيع العربي» في مواجهة الزمن الخاص بأسرة نور والذي اتّسم بالسلام لكونها وجدت أهلها الحقيقيين.

يتكامل الخطاب بوجهه الرمزي مع السعي إلى استقراء رموز المكان التي ارتكزت إلى حيّزين هما: «بيروت» بما تمثله من صورةٍ للغربة وللفوضى والانحطاط القيمي، و«سورية» بما تمثّله من ألمٍ وعظمةٍ في آن بحيث شكّلت مع بيروت الطرف الآخر من ثنائية دلالية ضدّية.

وتأتي الرمزية الخاصة بالشخصيات، لا سيما بشخصية «نور»، وبالأحداث المرتبطة بها على نحو مباشر، لتعمل على استكمال جوانب الخطاب الروائي لدى مها خير بك. فكانت شخصية «نور» بمثابة المثال في مواجهة رمز الزمن بأبعاده، إذ نراها المرأة التي لا تعرف إلا العطاء حتى لأعدائها بوصفها ممرضة، والتي خرجت من إطار التعالي على الآخر بزواجها من باكستاني، والتي جسّدت في شخصها وحدة الحياة بين مكوّنات المجتمع الواحد، نظراً إلى كونها تربّت في عائلة ثم اكتشفت أنها تنتمي إلى عائلة أخرى تتبع ديناً مغايراً. أما الأحداث فكانت لحظة انجاب طفلها الأول رمزاً للأمل، في مقابل رمزية الألم في عملية زوجها الجراحية بعد تعرّضه للحادث المدبر كما أن استعانة الأطباء بزراعة يدٍ له من متبرّعٍ سوريّ شاب مستشهد شكّل رمزاً للعطاء المطلق ولكون سورية مصدراً لمساندة البشرية وإسعادها.

يبقى أن ألفتَ إلى علاقةٍ خفيةٍ بين العنوان وما مر معنا من إشاراتٍ رمزية، فالحبّ الذي تمحور حوله العنوان يمكن مقاربته من زوايا مختلفة. فمن زاويةٍ أولى، يمكننا أن نجد في ضمير الغائب للمؤنث في «أحبّ ها » إشارةً إلى «نور» نفسها لأنها المثال الذي يتعلّق به أي انسانٍ عاقل، والمتكلّم في هذه الحال من الممكن أن يكون أيّ فردٍ من شخصيات الرواية… فزوجها الذي أحبّها أتى الاستدراك ليوضح المعاناة التي عاناها بعيداً عنها، أما شقيقها التوأم أظهر حبّه المنزّه عن الماديات نحوها قبل أن يعرف سرّ هذا الحبّ ويكتشف متأخّراً صلتها به وهذا من دون أن ننسى أنّ المتكلم لا ينحصر بالمذكّر فحسب، فمن الممكن أن تشير إلى أمّ أو صديقةٍ أو غيرها… ولكلّ منهن موجبٌ للاستدراك حول حبّهن نحوها.

من زاويةٍ أخرى، يمكننا أن نعدّ هذا الضمير تمثيلاً لمدينةٍ قد تكون بيروت، فهذا الحبّ الذي تكنّه البطلة أو الراوية أو الكاتبة، يفرض نفسه مع ما فيها من أزمات الغربة وفقدان الهوية ومن انحطاط وسقوطٍ ثقافي حضاري وافتراقٍ حادّ عن القيم. وقد يكون الضمير نفسه تمثيلاً لمكانٍ آخر، وأعني سورية، وبذلك يغدو الحبّ حاضراً نحو هذا الحيّز مع أنه يرزح تحت آلام الحرب.

ولعلّ هذه الاحتمالات المفتوحة في ما يقدّمه العنوان من إيحاءاتٍ دلالية حول ما يتضمّنه الخطاب الروائيّ هو الذي دفع إلى اختتام الرواية بالتساؤل: «وهل سيدرك أبناء الحياة جوهر حبّ عظيم وشريف وطاهر اختزلته عبارة أحبها….ولكن؟».

وباختصار، فإن الرواية شكّلت خطاباً أدبياً متماسكاً يحمل رؤيةً نقديةً نحو المجتمع تصدر عن الواقع وترى إلى المثال مهما بدا هذا الأخير بعيد المنال، وبهذا تكون الرواية عملاً يهدف إلى إنارة الطريق أمام هذا المجتمع ليدرك الطريق القويم لنفض غبار الانحطاط، وللارتقاء نحو تمثل القيم العليا.

وبناءً على كلّ ما تقدم، نصرّح بأنّ رواية «أحبّها… ولكن» عمل روائيّ متقن وأصيل، يحمل من القيم العليا ما نصبو إليه في مجتمعنا، ومن القيم الأدبية ما نتمنّاه في نتاجاتنا السردية وبذلك يمكننا أن نعلن بجلاء عن مقدرةٍ متميزةٍ للكاتبة في إيصال ما سعت إلى تقديمه داخل العمل، وهذا ما يجعل منه عملاً يستحقّ القراءة والإضاءة على ما يتضمّنه من مكنوناتٍ قيمية وفنية، كما يُبرزه بوصفه إغناءً لمكتبتنا الأدبية.

لمناسبة صدور رواية الدكتورة مها خير بك، والتي تحمل عنوان «أُحبها… ولكن»، أقام معهد المعارف الحكمية ندوةً حول الكتاب وما يحمله من ميزاتٍ فنيةٍ وفكرية، وقد شارك في الندوة على التوالي: الدكتورة أسماء شَملي ـ عميدة كلّية الآداب والعلوم الإنسانية سابقاً، الدكتور لؤي زيتوني، الدكتور علي حجازي، والدكتور علي زيتون كما أدارت الندورة الدكتورة هالة أبو حمدان. وقد ألقت المداخلات الضوء على جوانب العمل من الناحية السردية، كما من ناحية ما تتضمّنه من قيمٍ تتعلّق بالمجتمع وقيمه، وبنقد حاله الحاضرة، كما من إطلالةٍ على الأزمة الشامية. ونشير إلى أن الدكتورة مها خير بك أستاذة الألسنية والسيمياء في الجامعة اللبنانية، وباحثة ناقدة من الطراز الرفيع، كما أنها شاعرة وروائية تتميّز بفكرٍ متنوّرٍ حرّ من ناحية، ووطنيّ من ناحيةٍ أخرى .

كاتب وباحث

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى