المرأة التي تبعها المتصوّفة!

نجاح إبراهيم

ما زلت أقف بدهشةٍ وانبهار، كلّما قرأت عن تلك المرأة، التي ارتأت أن تكون قدوة في حالة، أو سمعتُ أحداً يستحضر شِعرها، أو يذكرها. فتلك الجرأة التي امتلكتها غير مسبوقة، خصوصاً أنها تتجاوز الحدّ البشري، لتنتقل إلى ما هو إلهي.

بكلمة واحدة، استطاعت أن تغيّر المسار، ليتبعها رتلٌ من الرجال المتصوفة المشهورين، حذوا حذوها، وتبعوا خطاها.

إنها العابدة العاشقة رابعة العدوية التي استعملت لفظة «الحبّ» في أشعارها وأقوالها. الحبّ الذي استحال عشقاً للإله الواحد. وأتت بمصطلح جديد، كان غائباً في معجم الصوفية، واستخدمته، وبذا تكون قد رسمت طريقاً ليمشي فيها التابعون.

قبل هذه العاشقة، كنّا نسمع بزهّاد ومتصوّفة كثر، لكننا لم نجد أحداً منهم تطرّق إلى مسألة الحبّ لله، بل إنهم كانوا يبدون خوفاً شديداً من النار، وحزناً مديداً، ويمضون حياتهم على هذا الأساس من الزّهد والحزن والخوف قلباً وقالباً، كالحسن البصري، الذي كان مغلفاً بالخوف، بل مُسرفاً به حتى قيل عنه «كان قد غلب عليه الخوف حتى كأنّ النار لم تخلق إلا له».

جاءت رابعة وأخرجت التصوّف والزّهد من هذا الاتجاه، وجعلته خاضعاً لعامل الحبّ الذي جعلها راغبة، لاهفة في أن تطالع وجهه الكريم، وليس لغاية أخرى لديها، فلا هي تطمع في ثواب، ولا نجاة من نار. كان حبّها خالصاً لوجه الله ولجماله الأزلي قالت، ذلك بشكلٍ مباشرٍ دون مواربة أو إشارة.

أحبّك حبّين حبّ الهوى

وحبّاً لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حبّ الهوى

فشغلي بذكرك عمّن سواكا

وأما الذي أنت أهل له

فكشفك لي الحجب حتى أراكا!

بهذه الرسالة عبّرت عن حبّها، الذي لم يكن وسيلة لغاية، أي اجتناباً لسعير جهنم، بل كان حبّاً لجماله. وقد استفسر سفيان الثوري عن ماهيته فقالت: «ما عبدته خوفاً من ناره ولا حبّاً لجنته فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبّاً له وشوقاً إليه».

لقد كان لها السبق في تغيير المصطلح، فقبلها لم يكن الحبّ الإلهي معروفاً أو مطروقاً، ولو عدنا إلى مالك بن دينار لوجدناه قد استخدم لفظة الشوق وعبد الواحد بن زيد كان يؤثر لفظة العشق على لفظة الحبّ أو المحبة للدّلالة على العشق الإلهي.

ولو كانا قبلها لاتبعاها كما فعل الزهّاد الآخرون أمثال: معروف الكرخي، والجنيد، والمحاسبي الذي قيل إنه وضع فصلاً خاصاً عن الحبّ أشبه ما يكون برسالة تحدّث فيه عن أصل حبّ العبد للربّ، وأنّ هذا الحبّ منة إلهية أودع الله بذرتها في قلوب محبيه.

وتبعها ذو النون المصري الذي يُعدّ من متصوفة القرن الثالث، حيث استعمل لفظة الحبّ، وكذلك يحيى بن معاذ الرازي، الذي أظهر حبّه لله بشكلٍ صريح ومباشر، واتسعت دائرة استخدام هذا المصطلح حتى وصلت الحلاج، الذي ترك أثراً في المحبة شعراً ونثراً من دون مواربة.

وابن عربي نظم شعره متبيناً ألفاظ رابعة، التي عبّر من خلالها عن الحبّ الإلهي، مُستخدماً الرّمز والكناية والإشارة، ولكنه لكي يعتصم غضب العامة، وثورتهم على جرأته شرح فعلته تلك في كتاب نثري له قائلاً: «جعلت العبارة في ذلك بلسان الغزل والتشبيب، لتعشق النفوس بهذه العبارات فتتوفر الدواعي على الاصغاء إليها».

ولعلّ السبب في استعمال المتصوّفة هذا التعبير، ملاءمته حقيقتَهم، وتصويراً لسرائرهم، وكما قال ابن عربي يؤثر بالسّامع حيث يبهج العاطفة ويثير الشعور.

فلفظ الحبّ جعلهم يذكرون أسماء معشوقات، وما يترتب من حالات العشق والحبّ من وصل وصد، وهجر وقرب ونأي، وخمر وسكر، فتشعبت الاستعمالات حتى اتهم كثيرون منهم بالإباحة والفسق، ثم الكفر والإلحاد مثل الحلاج، والسهروردي وآخرون؟

وكذا فعل ابن الفارض، الذي لم يخف تأثره برابعة حتى طريقة أسلوبه في الحبّ للإله في أشعاره.

تِه دلالاً فأنت أهل لذاكا

وتحكّم فالحُسن قد أعطاكا

بينما ابراهيم بن الأدهم نلمح ما كان يقول متأثراً بدعاء رابعة، وكذلك بحديث نبوي غذّى بهما مسيرته الصوفية، فهو على رغم شهرته لم يأت بجديد، أو يبتكر طريقاً غير ما أتت به رابعة.

والسؤال الذي يطرحُ نفسه الآن، وقد تساءلته كثيراً بيني وبين نفسي:

لماذا عبّر المتصوفة، وأولهم رابعة عن حبّهم لله باستخدامهم حبّاً للإنسان؟ هل بدأوا بحبّ شخص ما كباقي البشر، ثم تحوّل هذا الحبّ إلى حبّ أسمى وأكبر؟ هل فجعوا بهذا الحبّ الإنساني، فوجدوا ضالة الخلود بحبّ إلهي؟

إنّ ذلك الاحتراق في الداخل قدّموا له حطباً أكثر ليستحيل حرائق عشق له صفة الديمومة.

أديبة سوريّة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى