«داعش» الأميركية في العراق تمهّد لحرب جديدة على سورية وبأدوات جديدة
محمد شريف الجيوسي
على رغم مما تبدو عليه الولايات المتحدة الأميركية والإمبريالية العالمية وحلف النيتو واتباعهم الإقليميين وغير الإقليميين، من عداء شديد لـ «داعش» ورفيقاته من جماعات إرهابية دموية تكفيرية مغلقة العقول والأفئدة، إلا أن هذه الجماعات على الأقل في المرحلة الراهنة أكثر ضرورة لها من أي شيء آخر، وربما كانت الحصان الأخير أو الفرصة الأخيرة التي يمكن في ضوء ربحها المفترض إعادة دفة القيادة ثانية للإمبريالية في المنطقة، وبالتالي إعادة رسم خريطة ميزان القوى العالمي وحصار روسيا والصين ودول البريكس وغيرها.
لقد استخدم «داعش» الأخطاء التي وقع بها المالكي في توريط خصوم النظام السياسي بالتحالف معه على أمل إسقاطه و»تصحيح المسار» وقيام آخر على قواعد مدنية غير طائفية ولا مذهبية بعيداً من المحاصصة وتكريس وحدة العراق، وأدخل في روع «الحلفاء» أن «داعش» لا يتجاوز المئات وأنه في سياق هذا التحول لا يعدو أن يكون هامشياً، وما هي إلا أيام قليلة حتى تُحسم معركة بغداد ويسقط النظام السياسي برئاسة المالكي، بعد الحسم السريع الذي تحقق في الشمال ابتداء، بفضل الغطاء السياسي الذي وفره التحالف لما سمي بـ «الثورة الشعبية».
لكن الأمر لم يدم طويلاً، وتكشفت حقيقة الثورة الشعبية، وطغى طغيان داعش على الرصيد الشعبي الذي حملته الثورة ابتداءً، فتعثرت ووقع العديد من ضباط البعث والحرس الجمهوري والطريقة النقشبندية ضحايا «داعش» من الذين رفضوا تطبيق أجندته الدموية الطائفية المذهبية التدميرية، ومن انساق مع «داعش» أصبح عملياً جزءاً منه، تستغل خبراته العسكرية في غير ما أمل.
لم يكن ما حدث من تحولات متسارعة عشوائياً، فالجماعات الإرهابية في سورية التي أخذت بالتهاوي تحت ضربات الجيش السوري والمقاومة الشعبية وغيرها منذ نحو عام، وتكريس الرئيس بشار الأسد رئيساً شرعياً لفترة رئاسة جديدة وفق الدستور الجديد، واستمرار وقوف حلفاء سورية إلى جانبها، وفشل جنيف 2 سياسياً بتحقيق ما فشلت العصابات عن تحقيقه على الأرض، كل ذلك اقتضى تغيير شكل «اللعبة» على الأرض ومدها باتجاه العراق.
وتمكن «داعش» ـ المدعوم أميركياً ومن حلفاء واشنطن الآخرين، بما يملك من مال وسلاح ومعلومات وإعلام وما هو عليه من إرهابيين متعطشين لمزيد من الدم قدموا من جهات الأرض الأربع ـ من إغواء البعث والحرس الجمهوري والنقشبندية وجماعات عراقية أخرى، شكلت مظلة شرعية له للدخول الآمن للعراق، وقطاف ما قطف بسرعة مذهلة ما كان ليتحقق لولا تلك المظلة.
لقد كانت الخدعة أكبر من أن يتصورها عقل وما زال البعض لا يريد الاعتراف بالوقوع في الخدعة وأن البعض أصبح موضوعياً أداته، فيما جميعهم أصبحوا ضحاياها سواء من انخرط فيه، أو من صُفّي من الضباط أو من هرب بجلده لكنه أصبح مطلوباً من «داعش».
ولم تكن الخدعة في معزل عن التنسيق مع دوائر أميركية وإقليمية، ساعدت عبر اختراقات ومضللين إقناع «الحلفاء» بتوفير الغطاء وبأن داعش شيئاً عابراً وغير مهم.
ولكن ما وجه الأهمية لهذه الخدعة؟ لا بد من أن أولى إنجازاتها من وجهة الغرب، تحقيق مزيد من التفكك في بنية العراق الديمغرافية، وتهجير أكبر قدر من العراقيين المسيحيين، الذين قد يستخدمون لاحقاً كاحتياطي بشري في سياق معين، ومن الإنجازات عودة الاحتلال الأميركي للعراق، واستخدام غربه عبر داعش، منصة جديدة للانطلاق ضد سورية، ما يعني أن الحرب العدوانية على سورية ستطول، من خلال دولة خلافة مزعومة تجمع غرب العراق مع شرق سورية ستكون على اتصال جغرافي مع الأردن وتركيا، ما يتيح اتصالاً جغرافياً آمناً للأخيرة مع الخليج وهو الاتصال الذي لم يعد متوفراً تماماً عبر سورية والعراق في السنوات الأخيرة.
كما تتيح سيطرة داعش على حقول نفطٍ في خدمة صانعيه، واستدامة أمد الصراع لأطول فترة ينشغل الجميع خلالها عن مجرد التفكير بالعدو الصهيوني والقضية الفلسطينية، وتكريس ثقافة الدين أولاً و والطائفة أولاً والمذهب أولاً، وهذا يعني بمفهوم لأصحاب هذه الثقافة شطب تحرير الأوطان من الذاكرة والصراع مع العدو الصهيوني، وفي آونة واحدة يصبح بمفهوم العالم قيام دولة يهودية خالصة أمراً مقبولاً مبرراً مطلوباً ففي المنطقة ما يماثل وسبقه في التطبيق.
وسيستتبع هذا طرد بقية الشعب الفلسطيني من فلسطين المحتلة عام 1948 و1967، ونفيهم إلى استراليا ونيوزيلندا وكندا والمكسيك، والبعض إلى الولايات المتحدة، والإبقاء فقط على العلماء والأثرياء لاستغلال أموالهم وعقولهم.
والقيام بالترانسفير الفلسطيني سيكون على مراحل أولها إلى الأردن، وصولاً إلى خلق قلاقل وربما حرباً أهلية، جراء اختلال موازين الديمغرافيا الأردنية وما ستحرك سفارات إمبريالية من فتن.
بكلمات، هدف المجريات الأخيرة في العراق الرئيس، تجديد الحرب على سورية بأدوات وأشكال وآليات وقدرات مختلفة، من جهة العراق ومد أمدها عبر داعش، وتوسيع الوجود الاحتلالي الأميركي في العراق، ولاحقاً تبرير قيام دولة يهودية خالصة لما يستتبع ذلك من قيام بالترانسفير للفلسطينيين.
ولكن كيف يمكن مواجهة المؤامرة الجديدة على العراق وسورية والمنطقة؟
ينبغي أولاً، إدراك أن داعش مجرد أداة أميركية تنفخ واشنطن فيها كير مخاطرها، ما يستدعي الحذر ليس منها، بقدر ما ينبغي التحذير من ثقافة التكفير والتعصب والفكر المتشدد، لضمان تحصين الشباب من الانسياق وراء فكر هذه الجماعة عن غير إدراك لما تشكله من مخاطر راهنة ومستقبلية، وهذا يقتضي جهوداً ملموسة شعبية وحزبية وثقافية ومن الدولة.
وينبغي تعزيز اللحمة الوطنية وعدم السماح لأي شكل أو نوع من التفريق والتمييز العشائري والجهوي والمناطقي والإقليمي والديني والطائفي والمذهبي والعمل يداً واحدة في مواجهة أمرين: وقف الانخراط والتخويف المبالغ فيه من داعش باعتبار أن المبالغة مقصد أميركي، والأمر الثاني مواجهتها إن تمددت إلى الأردن افتراضاً.
وعلى صعيد الدولة بخاصة ينبغي تحقيق أمرين ضبط الحدود وإغلاق المعابر غير الشرعية ومنع تدفق اللاجئين من بلدان مجاورة، إلا من يدخل بطريقة مشروعة عبر المعابر الشرعية. ومن جهة أخرى، التعاون مع الشعب الأردني باعتباره الضمانة والسند والرديف للدولة والجيش والحكومة بمواجهة أي خطر خارجي أو داخلي، عبر تحقيق مطالبه من حرية وعدالة ومن تشريعات تضمن تداول الحكومات جراء انتخابات حزبية نظيفة.
بكلمات، من المهم لأن يفهم الجميع أن البوصلة الرئيسة هي القدس والقضية الفلسطينية والمقاومة، والتوجه الحازم لنصرتها باعتبارها الخيار الحقيقي وعدم التورط في أجندات جزئية لأو هويات فرعية. وعندما تستهدف سورية لأو العراق أو اللأردن أو لبنان أو حتى السودان أو الجزائر أو اليمن أو مصر، فإن المقصود استراتيجية القضية الفلسطينية، وتكريس الكيان الصهيوني قوة أعظم في المنطقة.