العودة الأميركية إلى الشرق… ملامح استراتيجية
نضال القادري
نجم تلفزيون الواقع الأميركي أصبح واقعاً يجب التعامل معه. إنّ اضمحلال خطوط الفصل الإيديولوجية بين الحزبين الأميركيين الجمهوري والديمقراطي هو الذي مهّد لفوز المرشح الإشكالي دونالد ترامب. لقد شيطن الإعلام المدفوع والمأجور دونالد ترامب إلى حدّ جعل من الناخبين يدينون بالتعاطف معه بطريقة عكسية. كلّ ذلك في ظلّ تصفير الاقتصاد المحلي وارتفاع الدين العام، وانكفاء الناخبين الفقراء عن التصويت، وتبدّل مزاج مواطني الأرياف، وتدني الدخل القومي للفرد، واستمرار المرشحة المنافسة هيلاري كلينتون في سياسة سلفها الفاشلة، «الناعمة»، والكلاسيكية.
إنها المرة الأولى التي ينحاز فيها الإعلام المحلي الأميركي مع مرشح واحد ضدّ الآخر بطريقة تخلو من الموضوعية. لكن بعد الانتخاب، إنّ العزلة التي يتحدث عنها بعض المحللين للولايات المتحدة لن تحصل. تاريخياً، تتعامل جماعات الضغط داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري المتنافسين مع مشاريع الحروب الدولية والصراعات المحتدمة تحت أربعة عناوين واتجاهات قصوى، وهي: لوبي الحرب، لوبي النفط، اللوبي الزراعي، ولوبي السيادات المتوازنة. إنّ دونالد ترامب «المرشح» للانتخابات هو غيره الرئيس الذي انتهى رئيساً منتخباً. علينا أن نتعامل مع خطابين ووجهين حتى تنتهي فترة استهلاك الخطاب الانتخابي واستقرار السياسة الخارجية ليتسنّى لفريقه تقييم الاستراتيجيات الجديدة في العالم، ومنها ما يهمّنا في الشرق.
إنّ الولايات المتحدة الأميركية حاضرة سياسياً منذ الحرب العالمية الثانية لتاريخه. مع إنجازات استراتيجية محسوبة وأهمّها إسقاط العراق واحتلاله، وتفكيك الاتحاد السوفياتي، واستكمال الدعم المتواصل للمؤسسة «الإسرائيلية»، وتوسيع مظلة «الدرع الصاروخية»، وتأمين مصادر آمنة للنفط في أكثر من مكان. اليوم، قد تنحسر الإنجازات بعد تضخم دور الصين الاقتصادي وانفلاشه، والعودة المفتوحة لروسيا بقوة إلى الميدان الدولي، وبالتحديد إلى الشرق الأوسط المشتعل بالكثير من النار. إنّ دخول الروس في تشكيل أحلاف مغايرة للكلاسيكيات التاريخية السابقة التي قامت عليها العقيدة الشيوعية الروسية عبر التكتلات للتعامل بديناميكية جديدة مع الصراعات الدولية يجب النظر إليه بحذر ودقة وعمق.
كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع قضايا العالم العربي الحارقة، وليس حصراً في العراق، سورية وفلسطين؟
في الشأن السعودي، إنّ قانون «جاستا» قد تبنّته لوبيات من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. أسقط القانون بالفيتو الرسمي للرئيس باراك أوباما. إنّ قانون «جاستا» ليس عداء ضدّ السعودية. قانون «جاستا» هو استفزاز إضافي للبقرة الحلوب التي إذا ما رضخت له السعودية تستطيع الولايات المتحدة أن تحقق إخضاعاً أكبر لها في ملف التطبيع «السعودي الإسرائيلي»، وتحقيق صفقات مالية سياسية واقتصادية. وربما يكون الضغط المباشر على السعودية من نافذة الملف اليمني الذي من الممكن أن يسجل فيه دونالد ترامب صفقة أميركية مع إيران والتسليم بدورها ونفوذها في الخليج.
في الملف السوري، إنّ مشروع إفشال الحلّ السياسي في سورية هو أحد طروحات إدارة الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة. وكذلك، هو «ديمقراطي» طريق الأمان لتغطية المشروع النووي الإيراني على مدى 8 سنوات من خلال ولايتين رئاسيتين كاملتين. ربما يكون تعامل الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه سورية شعوراً حقيقياً بحلّ الأزمة السورية. استمرار الغزل وتوطيد العلاقات مع روسيا يساعده لأن يكون من ضمن سلة التفاهم الروسي ـ الإيراني ـ التركي في المنطقة دون المرور بالاتحاد الأوروبي غير المرحّب أصلاً بانتخابه. لقد برزت بعض ملامح السياسة الخارجية من خلال خطاب الفوز، وقبله من خلال المناظرات الرئاسية الرسمية المتلفزة. لقد أقرّ ترامب بأنّ بلاده تتعاطى بسياسة «الغباء» في ملفات المنطقة، خصوصاً في استراتيجية التعاطي مع ملفات الإرهاب داخل العراق وليبيا وسورية واليمن. أعتقد أنّ الولايات المتحدة لم تعد قادرة على قيادة العالم والتكتلات العالمية الناشئة وحدها كما كان الحلم الأميركي يبرز فائض القوة في أكثر من مناسبة. هي تريد أن تتقاسم مناطق النفوذ الجديدة أينما حلّت إلى جانب حلفاء أقوياء يتحركون بحسب ديناميكية «حرة» وغير مقيّدة.
إنّ الملف السوري في الانتخابات قد حدّد مصير هيلاري كلينتون السياسي لجهة ما تدّعيه في «مكافحة الإرهاب». لقد أفصحت عن كلّ سياساتها ونياتها العدوانية تجاه «النظام السوري» دون اللجوء إلى تظهير ما يجب فعله مع تنظيم «داعش». هي التصقت مباشرة مع «المعارضات السورية» ووضعت نفسها إلى جانب الدول «الخليجية» بإدارة عصابات إرهابية بطريقة ممنهجة دون عائد سياسي أو تنفيذ تصوّر واضح للدور المستقبلي. أما دمى «المعارضات السورية» فهي الخاسر الأكبر مع خسارة هيلاري كلينتون، ولا أعتقد أنّ الرئيس الأميركي الجديد يتطلّع إلى «معارضات» ضعيفة، أو عنفية إسلاموية تطلق من الفنادق الفخمة بياناتها السياسية.
إنّ الانغماس الأميركي للحزب الديمقراطي كان واضحاً بأهدافه في نشر الفوضى الداخلية في أكثر من دولة دون إسقاطها في الشكل. إنّ أسقاط الدول من داخلها تضعها في صعوبة مطلقة لا تساعدها في حسم هوياتها الوطنية، وبالتالي فإنّ سيكولوجيا التقسيم النفسي للفرد والمجتمع تجد محلها وحاضنتها. لهذا لن يكون المستقبل واعداً إذا ما استكملت استراتيجية «نشر الفوضى» طريقها لتكون مقدّمة للتقسيم الجغرافي في المستقبل. سورية، نموذجاً لهذا السيناريو إذا ما استمرّت سياسات التدخل اليومي في الدول دون وجود استراتيجيات تعاون واضحة معها كدولة مستقلة ذات سيادة، انطلاقاً من مبدأ «السيادات المتساوية».
في الشأن الفلسطيني، سيعمل الفريق الصهيوني في أميركا إلى جانب دونالد ترامب على إنهاء الإرث والعقدة «الإسرائيلية» في القضية الفلسطينية. سيكون العمل من خلال ضغط إضافي على الفلسطينيين للاعتراف الكامل بما يُسمّى «يهودية الدولة» بطريقة متدرّجة ممنهجة. أيضاً، سيستمرّ العمل على أشكال جديدة من «التطبيع الأمني الكامل» وإنهاء قوانين «الصراع العربي الإسرائيلي»، بما فيها الاعتراف بالقدس «عاصمة أبدية» لكيان الاحتلال. برأيي، إنّ نجم الإنجازات المشتركة بين المؤسسة «الإسرائيلية» وفريق دونالد ترامب هو إلغاء القرار الدولي المتعلق بـ «حق العودة» للفلسطينيين، أو بالأكثر تفريغه عبر الضغط على دول الإيواء للبدء بعملية منحهم جنسياتها وإغلاق ملف «حق العودة» نهائياً.
أخيراً، إنّ أميركا تفتش عن عدو خارجي لتلمّ حيثيتها وتشتّتها الداخلي. الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، قال بعد هجمات 11 أيلول 2001: «مَن ليس معنا فهو ضدّنا»، وقد حدّد عدوه الأساسي «حركة طالبان» و«تنظيم القاعدة». أعتقد أنّ عدو دونالد ترامب المشروع سيكون كلّ «البرندات» الإسلاموية المحتضنة والناشئة في العالم العربي. إنّ الولايات المتحدة انتخبت دونالد ترامب رئيسها. نحن المشرقيين لا نحتفل بفوز دونالد ترامب لأنه استثنائي ومحبّ لبلادنا. إنّ الفرح الذي مارسناه يوم انتخابه مبرّر، بدايته ذهاب مثلث «الحقارة» الذي حارب الجيش والمقاومة في سورية على مدى 6 سنوات إلى غير رجعة: «كلينتون، كيري، أوباما». وبعد هذا الفرح، نحن على زناد البنادق قابضون، ولا مفرّ لسورية «جيشاً وشعباً ومقاومة» من الانتصار. لأنّ «سورية للسوريين، والسوريون أمة تامة». وإلى أن تلتقي النيات مع أفعال الرجال، تحيا سورية إرادة الانتصار.