أن يأتي الموقف متأخراً… أفضل من ألا يأتي أبداً
وجدي المصري
بعد كلّ هذه «الهمروجة» التي بدأت بالموقف المتقدّم لسعد الحريري المتمثّل بدعمه ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة الأولى، وما تبع ذلك من انتخاب عون فعلياً رئيساً للجمهورية، لا بدّ من أن نتساءل: ألم يكن أجدى بالحريري أن يخطو هذه الخطوة الجريئة منذ سنتين ونيّف ويوفّر على لبنان شغوراً رئاسياً انعكس سلباً على كامل الحياة السياسية فيه، أيّ تعطيلاً لدور المؤسسات، وتجميداً للحركة الاقتصادية، وانكشافاً أمنياً للساحة الداخلية؟ ألم يكن أجدى به بدلاً من المزاح مع الدكتور سمير جعجع بعد دعمه ترشيح الجنرال على أثر توقيع «إعلان النوايا» بين التيار والحزب وخلال احتفال 14 آذار المركزي الأخير قائلاً له: «ما كان أحسن يا حكيم لو عملتها من سنة؟ قديش كنت وفّرت على اللبنانيين»؟ أن يتماهى مع الحكيم حينها ويعلن دعمه ترشيح العماد عون، بدلاً من محاولة يائسة لإحراج حزب الله بترشيح سليمان فرنجية؟ هل يدري «الشيخ» سعد أنّه لو تخلّى منذ سنتين ونصف السنة عن خضوعه لرغبة السعودية ووقف موقف رجل الدولة الذي لا يقدّم مصلحته أو أية مصلحة أخرى على مصلحة الوطن، كما قال في مقابلته الأخيرة مع مرسيل غانم، أنّه كان قد وفّر على لبنان واللبنانيين الوقوع في لجة أزمة قاتلة كادت تودي بالكيان لولا الاستفاقة الأخيرة التي، وإنْ تأخرت، تبقى أفضل بكثير لو لم تأتِ أبداً؟
هي أسئلة مشروعة تستتبع أسئلة أخرى ومنها: هل يعتقد الشيخ سعد أنّه، وبعد انتخاب العماد عون رئيساً وتسميته لترؤس الحكومة، يكون قد أدّى واجبه أم أنّ مسؤوليته تبدأ فور تسميته لتشكيل الحكومة؟ وهل يدرك الشيخ سعد أنّه وإنْ تمّت تسميته لتشكيل الحكومة وبأكثرية نيابية لافتة، يبقى عليه اجتياز مخاض عسير، ليس فقط لتجاوز عقد التأليف وإرضاء جميع الكتل، عليه أن يتخلى عن الكثير من الكليشيهات التي اعتدنا سماعها منه، والتي لا يمكن أن تصبّ في مصلحة الوطن والمواطن؟ هناك مطبات يجب تجاوزها إنْ كان الشيخ سعد بالفعل يريد إخراج البلد من الوضع المؤسف الذي وصل إليه نتيجة المواقف السلبية التي كانت تتحكم بمواقفه. المناكفات السياسية من فريق سياسي لفريق آخر أوصلت البلد إلى طريق مسدود. الاتهامات والاتهامات المضادّة لم تحقق أية نتيجة سوى إغراق البلد في لجج الوحول السياسية التي كادت أن تبتلعه لولا الصحوة المفاجئة. فهل تكفي مبادرة دعم وصول الجنرال إلى قصر بعبدا، والتي من شأنها إيصال الحريري إلى السراي الحكومية، كي تشكل قفزة خيالية تنقذ لبنان مما يتخبّط فيه على جميع الصعد؟ بالطبع لا، إذ يجب أن تقترن هذه الخطوة، في ظلّ التشرذم والانقسام السياسي الحادّ على أمور جوهرية ومصيرية، برؤية جديدة شاملة للوضع، ليس فقط على صعيد الداخل اللبناني، وإنّما على صعيد المنطقة ككلّ. فلا يمكن الاستمرار بمقاربة ما يجري من حولنا بالمنظار نفسه الذي كان الحريري أسيراً له مع فريقه الداخلي ومع من يدعمه خارجياً. وكيف يمكن له أن يبدأ عهده باستمرار استهداف حزب الله وسورية، وهو يعلم أنّ حزب الله سيكون شريكاً في الحكم شاء أم أبى؟ وكيف يقرّر وحيداً سياسة الدولة وموقفها من بعض المسائل الشائكة وحيداً، وهي أمور تقرّرها الحكومة مجتمعة؟
درجت العادة في لبنان على اختراع الفذلكات السياسية عند الوصول إلى حلّ الأزمات. فمقولة لا غالب ولا مغلوب كانت دائماً جاهزة لتتصدّر العناوين لكي تخفف من حدّة المواقف ولتطمئن من يشعر أنّه قد غُلب على أمره. هذا لأنّه ما من سياسي في لبنان يفهم معنى المسؤولية خارج مصلحته الخاصة، إذ عندما تكون مصلحة البلد على المحك يكون رابحاً من يتحلى بشجاعة التضحية أكثر من غيره، ويكون خاسراً من يعتمد العناد بمواقفه حتى ولو كان على صواب. فسياسة الأوطان لا يمكن أن تدار بواسطة النكد السياسي على طريقة «عنزة ولو طارت»، بل بواقعية سياسية تستشرف الأمور قبل حدوثها فتتمّ عملية التمسك بها وبقوة إنْ كانت تحقق المصلحة العامة، ويتمّ التخلي عنها إنْ كانت ستؤدّي إلى أزمة يسهل الدخول إلى معامعها ويصعب الخروج منها إلّا بعد إنهاك جسد الوطن.
هذه الواقعية السياسية بدأت تبرز عند بعض صحافيي ما كان يعرف بفريق 14 آذار، وقد قادتهم إلى التراجع عن كليشيهات درجوا على تكرارها صباح مساء، على سبيل المثال لا الحصر: «إنّ حزب الله لا يريد لميشال عون أن يصل إلى سدة الرئاسة»… إنّ حزب الله لا يريد الدولة انطلاقاً من مقولة دولة قوية حزب ضعيف ودولة ضعيفة حزب قوي… إنّ الشيعة لا يريدون الدولة، حــزب الله هو من يعطّل إجراء الإنتخابات… حزب الله ينفذ الأجندة الإيرانية في لبنــان». كلّها مقولات سقطت، وهي كانت أصلاً ساقطة لذوي البصيرة النافذة، لأنّ حزب الله كان دائماً، وعلى لسان أمينه العام الصادق الذي يثق العدّو بصدقه، يذكر أنّه لا يمكن لأية طائفة أو أيّ حزب أو أيّ تحالف أن يحكم لبنان منفرداً، وكان يؤكد أنّه يريد الدولة القوية القادرة على، ليس فقط فرض الأمن على كامل أراضي الدولة، بل القادرة أيضاً على مواجهة العدو اليهودي الشرس الذي ما زال يحتلّ جزءاً من أرضنا ويطمــع بأجزاء أخرى تحقيقاً لمفاهيم دينية متحجّرة خاصة به. فالخطوة الأولى التي يجب على الحريري أن يقوم بها تكمن بأن يستوعب ايديولوجية حزب الله القائمة، ليس فقط على اعتبار «إسرائيل» عدواً للبنان، بل العمــل على تقوية لبنان لكي يستطيع الوقوف بوجه «إسرائيل» وأطماعهــا. عليه أن يتخلى عن نظرية أسلافه القائلة بأنّ العين لا تقاوم المخرز ويأخذ على ذلك مثالاً يتجسّد أمامه بتجربة حزب الله الذي وحده استطاع قهر «إسرائيل» وبدعم واضح من إيران، ولمَ لا؟ إذ لا يمكن للدول الصغيرة، بمن فيها «إسرائيل»، أن تعتمد على قوتها الذاتية، فمعظم الدول تطلب المساعدة من الدول الكبرى المقتدرة، ومشكلتنا تكمن، وهنا جوهر الخلاف، بعدم وضوح الرؤية التي تخضع، خاصة هذه الأيام، ليس لهيمنة المصلحة الوطنية، بل المصالح الطائفية التي تحاول «إسرائيل» ومنذ زمن طويل استغلالها لمصلحتها، وصولاً إلى إقناع معظم الدول العربية «السنيّة» بأنّها ليست عدوة لها بل العدو هي إيران الشيعية، ومن هنا لا يمكن الاستعانة بالدعم الإيراني حتى ولو كان يمنحنا القوة التي ترفض كلّ دول العالم أن تقدّمها لنا، لأنّها تقف بكلّ صفاقة إلى جانب عدونا «إسرائيل»، لأنه من حقنا أن نفتّش عن الدعم الذي يرفد قوتنا ويجعلنا في موقع القادر على المواجهة والانتصار.
ليس صحيحاً ما قاله الحريري لجهة أنّ الفشل يلحق بالعهد وليس به إنْ لم يستطيع تشكيل الحكومة، أو إنْ هو شكّلها ولم تنجز الوعود المعتادة التي تُقدّم للشعب. وإنْ قلنا بأنّ الحريري مسؤول استناداً إلى وثيقة الطائف التي لم تُبقِ من صلاحيات رئيس الجمهورية إلاّ الشكلية منها، فهذا لا يعني أبداً أنّه يتحمّل وحده مسؤولية الفشل، لأنّ وضع العصيّ في الدواليب، وفي هذه المرحلة الدقيقة بالذات، إنّما يعني أولاً وأخيراً أنّ ساستنا لا يفقهون من المواطنية شيئاً، وأنّهم لا يأبهون للوطن وللمواطنين بل كلّ همّهم يتركز على تأمين مصالحهم. لم يعد جائزاً النظر إلى مصلحة الوطن بالخفة السياسية المعتادة، وإلاّ فعلى الوطن السلام. فهل يكفي أن نكرّر صباح مساء معزوفة السيادة والحرية والاستقلال لكي ينعم الوطن بها؟ أم علينا أن نعمل لهذه القيم لكي تصبح حقيقة ملموسة فتنعكس هذه الحقيقة على كلّ المرافق وعلى كلّ مواطن دون استثناء؟
إنّ مسألة النأي بلبنان عمّا يجري حوله أشبه بنأي النعامة عن الصياد بدفن رأسها في الرمال. إنّ المؤامرة العالمية التي تقودها «إسرائيل» والولايات المتحدة ضدّ الشام والعراق ستطال شظاياها لبنان عاجلاً أم آجلاً، وقد طالته وأصابته إصابات مباشرة. وكلّ من لم يزل يدعو حزب الله للانسحاب من سورية مصاب بالحول الفكري، وكلّ من يطالب بشطب جملة الجيش والشعب والمقاومة من البيان الوزاري دون تضمينه مفهوماً أعمق فهو يريد، لا حلّ المشاكل العالقة، بل تجذيرها.
إنّ المطلوب تجاوز هذه المقولة إيجابياً بحيث يصبح المتّحد اللبناني بأكمله، ومن بعده المجتمع السوري بأكمله، مقاومة تتصدّى لمفاعيل وعد بلفور ومعاهدة سايكس بيكو، وتقف بوجه كلّ المخططات الإسرائيلية المشبوهة لتنفيذ سايكس بيكو جديدة وتقسيم ما قسّمته على أثر انتهاء الحرب العالمية الأولى. آن لنا أن ندرك أنّ الصقيع العربي مستمرّ، وأنّ «إسرائيل» استطاعت أن تلقي على قادة معظم الدول العربية سبات أهل الكهف، وبالتالي علينا أن نفكّك ارتباطنا بهذه الدول التي خذلت الفلسطينيين، وتآمرت مع الإسرائيليين على سورية ونتجه إلى عقد تحالفات جديدة واضحة الخطوط والمقاصد غايتها ضمان وصيانة وجودنا من التفتت والانحلال خدمة لغايات «إسرائيل».
على الحريري إنْ هو أراد للعهد أن ينجح، وهذا يعني أن ينجح لبنان بتخطي أزماته المستعصية، أن يلاقي حزب الله لا أن يقصف عليه، وأن يكون واقعياً بالتعاطي مع مجمل المسائل المطروحة على الساحة، وعليه أيضاً إعادة النظر بالمحكمة الدولية التي تستنزف أموال الدولة دون طائل غير تحقيق الانتقام السياسي غير المبرّر لفريق كلّ التهم المُساقة ضدّه ليست إلاّ من قبيل التهم السياسية المعلّبة.
وعليه أيضاً أن يتخلى عن مقولة دعم «الثورة» السورية ومقولة أنّ الرئيس الأسد يقتل شعبه، فالثورة لا تقوم على مرتزقة، ولا تقوم على أسس دينية مُختلقة تُكَفِّرُ الآخر وتهدر دمه وصولاً إلى « الحرية»، وقيام المسؤول الأول بالدفاع عن أرض الوطن مسؤولية حمّله إياها الدستور ولا يمكنه التخلي عنها إذا واجهته رياح إقليمية ودولية غايتها مزيداً من شرذمة وطنه. كفانا حقداً وتآمراً وآن لنا أن نبدأ فعلياً ببناء الدولة المدنية التي يتوق إليها الشعب الذي تجاوز الطائفية إلى رحاب المواطنية.
الخطوة الأولى المرجوة من سعد الحريري هي مدّ اليد إلى كلّ الفرقاء بصفاء نية وصدق، كما أعلن في مقابلته مع مرسيل غانم، إذا كان فعلاً قد أرَّقه حسه الإنساني مع الناس في لبنان.
ومسؤوليته تقضي بموقف رجولي آخر يحتم عليه فضح المعرقلين من جهة، وإبعاد الصائدين في الماء العكر عن تناول حتى فتات مائدة مصلحة الوطن.
ما أقدم عليه الحريري خطوة شجاعة كان يجب أن يتخذها فور انتهاء عهد ميشال سليمان بالرغم من الضغوط التي مورست عليه. وهذه الخطوة، على أهمّيتها، ستبقى منقوصة إذا لم تُستتبع بخطوات شجاعة أخرى من شأنها إنقاذ البلاد والعباد من سوء المصير المحتم إنْ استمر المتاجرون بها وبنا ممسكين بخناقها وأعناقنا ليمتصّوا آخر نقطة دم من شرايين حياتها وحياتنا.
هي تضحية… نعم، ومن قال إنّ الأمم يمكن أن تحقق تقدّمها وازدهارها دون تضحيات؟ وهل التضحية مطلوبة فقط من سعد الحريري؟ طبعاً لا… فعلى الجميع أن يثبتوا أنّهم رجال دولة في زمن الشدائد وإلاّ يكون قد كتب علينا أن نبقى نعيش زمن الدولة المزرعة أو المزارع…