الانتخابات الرئاسية ودونالد ترامب وأميركا الجديدة

غسان بو دياب

لن نقول أننا كنا قد توقعنا كتابة، فوز المرشح الجمهوري سابقاً، رئيس الولايات المتحدة المنتخب، حاليا، كي لا يرمينا البعض في لبنان والمنطقة باليالطيفية، علماً أني، منذ أوائل عهدي بالصحافة والسياسة، أميل إلى التحليل السياسي وليس إلى الشعوذة والتدجيل باسم التوقع، الذي لا يستند، في معظم الأحيان، إلى أيّ معايير علمية، بل يكتفي بالقول على مبدأ أنّ «الحكي ما عليه جمرك» وأنه مهما قيل، فاللبناني يتمتع بذاكرة قصيرة والشاشات مفتوحة، تحوّلت في عصر ما بعد «الواوا» والرخص إلى «سوبر ماركت» قيم أخلاقية وسلوكية، تشبه كلّ شيء، إلا العقل اللبناني كما نعرفه، أو بالأحرى، كما نريده.

لماذا فاز دونالد ترامب، هل يكفي أن يكون المرء ميليارديراً ليحكم العالم في السياسة، رغم عدم تمتعه بأيّ خاصية من خصائص الرجل العامل في السياسة تقليدياً؟ وكونه خارج المؤسسة السياسية الأميركية، المعروفة بـ«الإستابلشمنت»، رغم ذلك، شق ترامب طريقه إلى البيت الأبيض، بسرعة قياسية، وهو الآتي من عالم الجمال والفن، محطماً أساطين وأساطير التدرّج السياسي في مكاتب أعضاء الكونغرس، وصولاً إلى حكم الولايات، وأخيراً انتخابات البداية «primary» ليصل المرء، إنْ فعلها، إلى السباق الكبير.

من خبرتي في الولايات المتحدة، عاملاً في البث الدولي للإدارة الأميركية، كنت أرى المشهد المتفاقم والصراع المنظومي في السلطة الأميركية، صراعاً تشكل الرئاسة إحدى مؤشراته، لكن ليس كلها. فالرئيس في الولايات المتحدة ليس حاكماً بأمره، بل هو، نوعاً ما، رمز وحدة الولايات المتحدة والناطق الرسمي باسم الأمة الأميركية. أما في الصلاحية، فالكونغرس بغرفتيه هو المشترع الأساسي. وعملياً، هو مطبخ العمليات والقوانين والسياسات التنفيذية. وأذكر مؤخراً، إضراب الإدارات العامة أكثر من أسبوعين، بعد فشل الكونغرس في إقرار التشريعات اللازمة للصرف وتمويل رواتب الموظفين العاملين مع الإدارة الأميركية. في الوقت عينه، لم يتمكن الرئيس أوباما من تقديم أيّ حلّ، سوى محاولة التوسط بين الجمهوريين والديمقراطيين. شكل هذا الحدث نموذجاً حياً على ضيق حدود مساحة «الملعب الرئاسي»، رغم لمعان المركز. من هنا، حينما ترشح ترامب للانتخابات الأولية وكان الجميع رافضاً لترشيحه وتدرّج من الاستهزاء بذلك الترشيح، إلى القبول به وحتى تبنّيه، لم يكن الجمهوريون قلقين، بل كان الجواب من صقورهم واحداً: نحن مؤسسة الحزب الجمهوري ولسنا شخصاً. وأياً يكن من يجلس على كرسي الرئاسة، سيمثل مصالحنا وتوجهاتنا وسياستنا وأفكارنا، وإلا، فلدينا ما يكفي من الخبرة في التعاطي مع «عقوق» أيّ مرشح، حتى ولو جلس على كرسي الرئاسة الأولى. بالتالي، كان همّ الجمهوريين العودة إلى البيت الأبيض. وهذا الهدف، شكل بالنسبة إليهم مطلباً أهمّ، بما لا يقاس، من سؤال أنفسهم بمن سنعود إلى المكتب البيضاوي.

نقطة إضافية، تعوّدت أميركا ألا تسلّم مقاليدها لحزب أكثر من ثماني سنوات، ليتسلّم الحزب الآخر السلطة. شكل هذا التقليد نوعاً من التوازن في السياسة الأميركية الداخلية والخارجية. وبرأيي، خطأ هيلاري كان تسلّمها منصب وزيرة الخارجية في حكومة أوباما، في ولايته الأولى، إلى جانب أخطاء السياسة الخارجية. وتعاطت مع المشهد وكأنه محسوم لصالحها سلفاً، فكان أن انتشرت منذ عامين، أو ثلاثة، ملصقات على زجاج السيارات مكتوب عليها «جاهز لهيلاري 2016»، إلا أنّ حسابات بيدر النتائج لم تطابق حسابات حقل الأمنيات، فكانت الهزيمة المدوية. علماً أنّ الكثير من الأصدقاء الأميركيين، همسوا لي همساً، أنهم صوتوا لترامب «لا حباً به، بل كرهاً بهيلاري»، التي يحمّلها العديد من المواطنين الأميركيين، خصوصا منهم الفئات الناشطة سياسياً واجتماعياً، وزر أخطاء إدارة أوباما. وتصوّروا وصولها إلى البيت الأبيض، استمراراً للنهج السائد.

لن نشهد انقلاباً في الداخل والخارج الأميركي، تقول مصادر أميركية، تغيير السياسة طبيعي، لكنه ضمن المرسوم والمحدود والمحدّد. وطبعاً لن يتمّ ذلك، قبل سنة من الآن. بانتظار الرئيس الجديد جملة ملفات، أولها ترتيب «البيت الداخلي»، باعتبار أنه أول رئيس أميركي في التاريخ، تواجه انطلاقة عهده هذه الموجة من النقمة الشعبية، التي تصل إلى حد التظاهرات الصاخبة.

وتشدّد المصادر على قلقها من إمكانية أن يقوم متضرّرون من وصول ترامب، من خارج السياق الطبيعي، باغتياله. ويستفيدون من خطابه المتشنّج بحق المهاجرين والمسلمين، لرمي التهمة على أحد هؤلاء أو كليهما، ما يرفع منسوب العنصرية إلى حدودها القصوى ويؤدّي إلى تفتت جوهري في بنية المجتمع الأميركي، الهش أصلاً، باعتبار أنّ منطق «الوعاء المذيب» لا يزال ضمن الاختبار المستمرّ. وشخصية مثيرة للجدل بهذا الحجم، في المكتب البيضاوي، كفيلة أن تعيد إضرام جمر، ظنّ كثر أنه دفن وانتهى تحت الرماد، فإذا به يثبت أنه حي وقائم بقوة.

في المحصلة، تختم المصادر، الأيام المقبلة لا شك حبلى بالكثير الكثير على المستويات كافة وفي كلّ الميادين. والراجح الذي بات في حكم المؤكد، أنّ وصول جمهوري من قامة ترامب إلى زعامة الولايات المتحدة، سيشكل خلطاً للأوراق جوهرياً. ويمكن القول إنّ ما قبل أميركا الترامبية لن يكون كما بعده. وربما كانت أميركا بحاجة إلى «تغيير دماء» بعد ولايتين أوباميتين، يراهما المراقبون أنهما لم تكونا الأمثل لرئيس أميركي. ولكن غداً يوم آخر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى