على ورق تشرين… انتفض الحبّ بدل الحرب

آمنة بدر الدين الحلبي

كأنني على موعد مع ليلة قمرية قاربت على الاكتمال بدراً، وامتدّ سماؤها عابقاً برياح النصر المؤزر يحملها ورق تشرين وينثرها على مساحة الحياة تنعش الروح مع صوتُ الجنادب كانت أشبه بنغمات موسيقية تعزفها على إيقاع جميل لينتفض الحبّ بدلاً من الحرب التي ما فتئت تقتل أبناءها، وتدق طبولها في قلب المدن السورية وعلى حواف الوطن.

لكنّ صوت الجنادب كانت أعلى في تلك الليلة حين اصطدمت مع نسمات تشرين، وأطلقت معزوفة أشبه بسمفونية أورنينا مغنية المعبد في قصر ماري، حلّقتُ معها في فضاءات الآلهة، وسرحت في حلمٍ أخذني إلى مملكة ماري حيث حورية الليل كانت تعدُّ لكرنفال عشقها في معبد الآلهة، وصلت على سفينةٍ حاملة معها بقايا حب، ورست في ميناء ماري معلنة الحب، وحفل موسيقي يُطربُ القاصي والداني على أرضٍ تعجُّ بحضارةٍ عريقة متأصلة ارتقت بين الحضارات وارتوت من نهر الفرات، وامتدت إلى ما يزيد على خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.

كانت ترفل بالجمال، وتتمايل بقدها الميّاس، لكن وشاحها المخضّب بالدماء كان يفوح بعطر اليوفوريا، عقدت لساني عن السؤال، وامتلأت المآقي بالدموع، ودق قلبي نبضه حتى شقَّ عنان الفضاء، وما بقي من روحي سرح مع النوارس المهاجرة.

قالت: احتضنته لأبلسم جراحه من حربٍ قذرة، فسرقت الأرض مني العظام، تركته أمانة لها بعد أن طبعتُ قبلةً حبٍّ على جبينه، وانفصل الجسد عن الرأس.

ما الذي حصل لحورية الليل؟ كانت مشغولة بحياكة ثوب السماء، وصوغ الجمال، وما كان على الأرض عطور الحياة، جاءت على سفينة الحب، لترتّب فرقة أورنينا استعداداً لعرس عشقٍ لامحدود، تشاركها الآلهة فرحاً وضجيجاً.

قلت: كان ينتظر قدومك مع ريح الحنون والمهداج لتستدر السحاب وتلقّحه فيمطر، ويحضنك بين ذراعيه، ويلملم حنينه من عشق كان وما زال ممتداً على مساحة الوطن.

قالت: كان يصيغ تاجاً من ورق تشرين منثور عليه كل عبارات الحب، لكن يد الإجرام لا تفهم معنى الحبّ ولا تدرك تأويل أحاديثه.

قلت: لكن أرضنا عامرة بالحبّ وما سرح منها على ضفاف الأنهار.

قالت: قلبُه نهرٌ من حبّ، وما عشعشَ في الروح تتراقص على أنغام أورنينا الجميلة التي كانت وما زالت إرثاً ثقافياً على مرِّ العصور.

صمتَتْ وشقَّ صمتُها أنين الحياة على مدارج السالكين، وسرحت مع حبيبٍ ما زالت أبجديته تعرشُ على جسدها، وهطل لؤلؤ عينيها.

كسرتُ الصمت المقيت وأعدتُ على مسامعها حروفه همساً وأغنية.

قالت: لو رسمتُ على كل الحضارات اسمه لَفاحَ أريج الحبّ.

قال: ما أجملني بكِ حين يزغردُ النهر ويحملني على مياهه الصافية إليك.

قالت: تعالَ كي أمدّ لك مائدة الفرح، وألملم ورق تشرين بندى رياح الحنون.

قال: انتظري قدومي حاملاً معي الدنَّان مملوءاً من خمر الآلهة، كي أصبّه على جسدك قطرات حبّ أنقشُ بها اسمك يا حورية الحياة، يا حلب مكللاً بالجمال وأشربُ نخبَ الانتصار، وما بقي أجعله سواقي الفرح.

قالت: تعبَتِ الجداول، ودقَّتِ القلوب ألمَ الفراق.

قال: آتٍ بكل النصر، لأصيغه مهراً لأجمل حبيبة، وأمرّ بشفتي أبلسم جسدها الطاهر وأطبعُ قبلات عشق تعرش على مفاصل روحها.

كانت تتكلّم من وجعٍ، وكأنني رأيتُ ملوك الأرض واقفين احتراماً في حضرتها متوجة بإكليل النصر.

أودّ أن أتكلم عن وجهها، عن تضاريس قلبها، عن جمال إطلالتها، عن ترابها المكلّل بالذهب لا تسعفني الكلمات، وما سقط من الحروف ظلّ مضمّخاً بالدماء.

كان الليل هادئاً لا ظلمة فيه وكأنه النهار، لأنعم بنور وجهها الصبوح، والطلّ يكسو مفارق الحياة، ويمرّ على أحلام السماء العلوية، ساكباً رؤى الليالي المقدّسة التي رسمت عشق الجنون على موائد الآلهة.

قطعَتْ صمتي وانتشت أميرة الفرح رغم الحزن الذي يكلّلها، والدماء التي صبغت جبينها، وما بقي من الإجرام إلا سويعات كي تدحره وتعلن النصر.

قالت: كان بودّي اللقاء في معبد أورنينا، لأمنحه مسرّة الحياة، لكنه سيبقى يترنّم على سرير الخلود، وما ترك من كلمات، ألتجئ إليها حين يشتدّ الحنين صاعداً بنسمات الروح.

قلت: يليقُ بأبناء الحياة أن تفخر بعطاءاتهم وانتصاراتهم وإن تواروا تحت الثرى.

قالت: خالدون يتنفسون عبق الأرض وما تحت الثرى، وما سرح من عشقهم باقٍ في روح الحياة، يعودون كي ينثروا عشقهم على ورق تشرين انتفض الحبّ بدلاً من الحرب.

قلت: ستعزف موسيقى النصر أورنينا آلهة المعبد بفرقتها الموسيقية المؤلفة من ستة وعشرين عازفاً يتم توزيع نوتاتهم على مفهوم الدوزنة، ليرنّ سحر النصر في أرجاء الوطن سورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى