تأسيس في أبدية الزمن سعاده أو الفناء
د. نسيب بو ضرغم
هو أنطون سعاده، الحدث الذي تفتّحت عيناه على مشهدية المأساة المتمادية في التاريخ، مأساة الأمة السورية.
هو الشاب الذي تحدّت المأساة عقله ووجدانه، ودفعته لأن يسأل نفسه، «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل»، الويل الذي شرقط تحدّياً في عقل ذاك الفتى الشويري ووجدانه.
لقد ظهر أمام سعاده، هذا التمادي الزمني الآخذ برقاب بعضه، وفي حقبات التاريخ كافة، وما سبق منها الميلاد، وما تلاه. تمادٍ في الزمن المثقل بالفجيعة السورية، منذ إشراقة العقل الأولي على يد السومريين، وحتى ما يجري الآن على عتبات الشام وفي مجمل سوراقيا.
لماذا استوطن الوحش هذه البلاد، ولماذا يرفض مغادرتها؟!
لماذا تلتقي وحوش الأرض كلّها على هذه البلاد، على أرض هذه السورية، تخريباً وتمزيقاً وتشويهاً؟
لماذا يصّر وحش هذا الزمن، أن يسقط التاريخ والحضارة والمستقبل والمادة الشعبية لمصلحة وحش فرنكشتاين اليهودي؟
سعاده، ابن هذه الفاجعة، استوعب عقله خطرها وأبعادها، وكان ردّه العبقري المتميّز، غير المنسوخ، أو المستنسخ، ردّ الطبيب الذي اكتشف طبيعة المرض الفريدة، فلم يبحث في كتب الطبّ عن الدواء، لأنه عرف أن ليس لمثل هذا المرض من دواء، في صيدليات الشيوعية، والاشتراكية والفاشية والليبرالية، كان ينبغي تركيب معادلة دواء مبتكرة، لهذا المرض الفريد، الذي اسمه اليهودية العالمية في مشروعها المدمّر وجودَنا القومي، بدءاً من فلسطين، ونهايةً بالإنسانية جمعاء.
قدّم الطبيب السوري تشخيصه الفذّ للداء السرطان، ومنذ بداية العشرينيات من القرن الماضي، وكان سبّاقاً في ذلك، ولكن خلاص مريضه ليس بالتشخيص السليم فقط، بل بالدواء والعلاج الملائمين، وهكذا كان.
يقول هذا العظيم السوري: «لا تنهض الأمة إلاً بقضية عظمى كاملة، ولا تنتقل من حياة إلى حياة إلا بحركة شعبية تنشأ من صميم الشعب». أما لماذا قال هذا الكلام، فلأنه قد تكشّف لديه عمق أمراض مجتمعه السوري من فقدان الشعور القومي بفعل عصور من الانحطاط، وانحطاط المستوى المناقبي والأخلاقي، وحلول المصالح الشخصية والغايات الفردية مقام مصلحة الأمة والغايات القومية.
إذ لم يكن لدى الشعب السوري من عصبية تشدّ جسده الواحد، ومن شعور أساساً بأنه جسد واحد.
لقد رأى سعاده كيف غاب الجسم القومي الواحد، وحلّت مكانه المكوّنات الطائفية والمذهبية والعرقية، وحتى النزعة الفردية.
إنّه غياب الوجدان القومي، السبب الأساس بنظر سعاده، الذي أوصلنا إلى هذه الفاجعة التاريخية.
المشهد الذي ظهر أمام عقل سعاده يتمثل بشعب يجهل أفراده أنهم شعب واحد، وإنما شيع ومذاهب وطوائف، تتحكّم بهم، ورأسمالي عميل، وطائفي يجتاحه شبق السلطة، وإقطاعي شجع لا تعنيه المصالح القومية، وأفراد يجلدون أنفسهم من غير وعي بسياط جهلهم وتبعيتهم.
إنه مشهد الفقر والخوف والعبودية، مشهد التنقيب القاتل، مشهد الاستغلال بأبشع صوره، سواء ما كان منه اقتصادياً أم اجتماعياً أم نفسياً.
مشهد الأرض القومية، ولم تكن بعد دماؤها قد جفّت عن نصل سكاكين سايكس بيكو، عندما وقع هذا المشهد أمام عقل الشاب أنطون سعاده ووجدانه.
أمة أبتُليت بالتقسيم الاجتماعي فأصبحت أمماً تسير باتجاه التفتيت، وأرض قومية ابتُليت بالتقسيم لتسير أيضاً باتجاه تفتيت المفتَّت.
يقول سعاده: «إنّ أعظم تفسّخ وتفكّك تُصاب به أمة من الأمم، هما التفسّخ والتفكّك الناتجان عن تحويل الطوائف إلى أمم بالمعنى الحرفي. وتحويل الحزبيات المتعدّدة إلى قوميات تتضارب في الأهداف بين انفصالية ضيقة… وانفصالية اتحادية منفلشة».
إنه التفكّك القومي والاجتماعي. هذا التفكّك الذي لا ينتهي بالإشارة إليه فقط بل بوضع قواعد فكرية تلغي مسبّباته، المسبّبات التي يحملها أفراد المجتمع السوري كالفيروس المدمّر لكلّ حيوية قومية صحيحة. من هنا يتفرّد الطبيب السوري سعاده، بأنه ابتكر دواءه الفذّ، وهو المبادئ في شقيها الأساسي والإصلاحي، لتشكّل فلسفة قومية اجتماعية تُعيد صياغة الإنسان الجديد، رغم تاريخية مأساته. إنّ الدارس للفكر القومي الاجتماعي، يدرك تماماً، مدى تركيز سعاده على الفرد لنفسه ولطبيعة ارتباطه، وطبيعة دوره في الجسم الأتمّ نقضاً لزمن من الانحطاط واللاوعي عاشه السوريون، وقد وضعت المبادئ القومية الاجتماعية حدّاً له. يقول سعاده: «إنّ مظاهر الانحطاط والانحلال في الأمة السورية، تمتدّ في أوساط الشعب روحية جديدة ويحيا إيماناً جديداً».
من هنا سرّ عبقرية سعاده، في أنه استولد الروحية الجديدة على أنقاض القديمة المسؤولة عن كلّ فواجعنا، وبالتالي كان الإيمان الجديد سيشكل في ملحمة الصراع العظمى الطاقة اللازمة لاستمرار الصراع وصولاً إلى النصر المؤكد.
قال سعاده: «كان السوري، حالة غائبة عن الوعي، أضاعت هويتها، فلا أحد يعرف مَن هي، وهي بحكم غيابها لا تدرك نفسها، ولا معناها، ولا قوتها، ولا مكانها».
مع سعاده أصبح السوري طاقة، تعرف مَن هي، وأين تتموضع، مُشهِرَة هويتها بوجه التاريخ على مدى الزمن، كان السوري حالة مُغمىً عليها، وأصبح وعياً مضاعفاً بعدد السوريين قاطبة.
من أجل كلّ ذلك يقول سعاده:
«لا ينقذ الأمة من تخبّطها وأخطارها، غير حركة شاملة لها صفة قومية عامة، ولها مبادئ اجتماعية، تؤسّس حياة جديدة، وتطلق قوى الأمة في تيار عظيم مجيد».
نعم، إنّها القومية السورية، والتي بدونها لا يكون خلاص للأمة السورية من الفوضى إلا بفضلها.
ومن أجل ذلك كان الحزب، الذي يقول عنه سعاده وعن غرضه: «إنّ غرض الحزب هو توجيه حياة الأمة السورية نحو التقدّم والفلاح. هو تحريك عناصر القوة القومية فيها لتحطيم قوى التقاليد الرثّة، وتحرير الأمة من قيود الخمول والسكون». إنّ الفكر القومي الاجتماعي، ما كان إلا ليحرّر الفكر السوري من الإيحاءات الأجنبية، وإنشاء الدولة السورية القومية المستقلة.
لو راح سعاده يبحث عن هذا الدواء في الصيدليات الشيوعية والاشتراكية والفاشية والرأسمالية، هل كان بإمكانه أن يقع عليه؟ ولو أراد سعاده أن يؤسّس حزباً مستنسخاً من نوع أحزاب تلك الفلسفات، هل كان وقع على حزب يخدم قضية الشعب السوري؟ بالطبع لا، وقد انهارت الأشكال والمنظومات وأصبح العالم يبحث عن عقيدة خلاص لهذه الإنسانية المعذَّبة.
وفي ذكرى تأسيس الحزب، تأسيس النظرة الجديدة للحياة والكون والفنّ، تأسيس شروط قيام الإنسان الجديد، تأسيس إدراك الحقيقة القومية السورية، وبعد هذا الانهيار غير المسبوق للعقائد… نقول وبكلّ ثقة… سعاده أو فناء.
سعاده المزروع في الأفق القومي ما بقيت الأمة السورية، سعاده المُصَدِّقَة أقوالَه تداعياتُ الأحداث، سعاده مبدع المبادئ ومؤسّس الحزب وقائد الأمة نحو النصر… سعاده المسكون بالزمن، والزمن المسكون بسعاده… نعم هو أو الفناء القومي.