سعاده نور المعرفة
زهرة حمود
بين تأسيس الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ واستشهاد مؤسّسه وباعث نهضة الأمة السوريّة أنطون سعاده سبعة عشر ربيعاً.
أعوام قليلة في حساب الزمن، ولكنّها أنتجت غلالاً بعثت أمّة من سُباتها الطويل، وأثْرَتْها علماً وفكراً وفلسفة وأدباً وعطاء لا يعادله عطاء في هذه الدنيا.
من لبنان، من عرزاله في ضهور الشوير، هبّت نسائم النهضة فبلغت فضاء الشام وفلسطين والأردن والعراق، وكلّ ناحية من نواحي الأمّة السوريّة التي حدّدها المعلم تحديداً علميّاً جغرافيّاً حضاريّاً، واستنطق تاريخها الذي يعود إلى ما قبل التاريخ الجليّ.
في بداية ثلاثينيّات القرن المنصرم، في ذلك الزمن الذي كان مثقلاً بجراح الحرب العالمية الأولى، والقائمون على أموره يعدّون العدّة لحرب ثانية، كانت بلادنا تائهة في انقسامات فُرضت عليها، واستعمار انتدب نفسه لنهب خيراتها، وأهلها مشتّتون بين الإقامة الذليلة والهجرة بحثاً عن عيش أفضل.
وكان المتنوّرون من أبناء أمّتنا، المقيمون منهم والمغتربون، يكتبون ويحلّلون ويسعون إلى بعث المعرفة، متململين بين البحث في التراث والغرف من معين الثقافة الغربيّة، ولم يقدّم معظمهم سوى كتابات تأثّرت بالرومانسيّة الجميلة.
من الكتَّاب من حرص على إظهار تمايزه عن الآخرين، ومنهم من ندب الحال السيّئ الذي وصلت إليه بلادنا.
فهذا جبران خليل جبران يطوّع اللغة العربيّة ويخلّصها من وحشيّة المفردات، ويسعى للتغيير، ويستوطن لبنانه المتميّز عن لبنانهم:
«لكم لبنانكم ولي لبناني: لبنانكم شرائع وبنود على أوراق، وعقود وعهود في دفاتر، أمّا لبناني ففطرة في أسرار الحياة وهي لا تعلم أنّها تعلم، وشوق يلامس في اليقظة أذيال الغيب ويظنّ نفسه في منام، لبنانكم شيخ قابض على لحيته، قاطب ما بين عينيه ولا يفكر إلّا بذاته، أمّا لبناني ففتى ينتصب كالبرج، ويبتسم كالصباح، ويشعر بسواه شعوره بنفسه».
وهذا ميخائيل نعيمة يُعرب عن حزن كبير على ما ألمّ بأهلنا من وجع، ويسكنه يأس وصل به إلى حدّ المطالبة بدفن أنفسنا أحياء:
أخي! مَنْ نحنُ؟ لا وَطَنٌ ولا أَهْلٌ ولا جَارُ
إذا نِمْنَا، إذا قُمْنَا رِدَانَا الخِزْيُ والعَارُ
لقد خَمَّتْ بنا الدنيا كما خَمَّتْ بِمَوْتَانَا
فهات الرّفْشَ وأتبعني لنحفر خندقاً آخَر
نُوَارِي فيه أَحَيَانَا
ويقف رشيد أيوب، الذي لُقّب بالشاعر الشاكي، أمام منظر الثلج المنهمر في مدينة نيويورك، فيتذكّر بلدته بسكنتا الراقدة في حضن جبل صنين المواجه لبلدة ضهور الشوير، فتهيج أشجانه ويناجي الثلج بقصيدة مطلعها: «يا ثلج قد هيّجت أشجاني»، ليقول:
يا ثلجُ انتض بثوبكَ الباهر
ونقائهِ كطويّةِ الشاعِر
لَو كنتَ تدري الناس يا طاهر
لبعدتَ عنهم أيّما بُعدِ
لَو لم تذُب من زفرَة القلبِ
أو دمعيَ المنهال كالسُّحبِ
لبَنَيتُ منكَ هياكلَ الحبِّ
وحفَرتُ في أركانها لحدي
وبين الأمل واليأس، حاول العديد من كتّابنا جاهدين جمع الكلمة وتوحيد الصفوف، والعمل في مغترباتهم البعيدة من أجل رفع شأن بلادهم.
وحده أنطون سعاده ابن ضهور الشوير أعمل الفكر وبحث ونقّب وحلّل وقرأ وكتب، واستنطق التاريخ والجغرافيا والاجتماع والفلسفة، وحمل عدّته وعاد من المغترب تاركاً فيه حلم البحث عن سُبُل العيش، وجاء إلى أمّته من أجل الحياة، مؤمناً إيماناً مطلقاً بأصالة شعبنا. أليس هو القائل في ما بعد: لم آتكم مؤمناً بالخوارق، بل أتيتكم مؤمناً بالحقائق الراهنة التي هي أنتم. أتيتكم مؤمناً بأنّكم أمة عظيمة المواهب، جديرة بالخلود والمجد».
سأله عمّه عن الهدف الذي عاد من أجله إلى لبنان، فأخبره عن نيّته بتأسيس حزب. عجب العمّ من طموح شاب لا يملك المال، كيف يُقدم على مشروع يحتاج موازنة ضخمة.
لم يكن يدرك هذا العمّ أنّ سعاده ومنذ نعومة أظافره سكنه الهمّ القوميّ، وعمل من أجله وهو لا يزال فتى، ولم تغره الحياة شاباً، بل قبض على ناصيتها يعدّ العدّة الفكرية من أجل تغيير الواقع المُزري الذي ألمّ ببلاده.
وبعد الغزير من الكتابات، وتأسيس الجمعيّات في المغترب مع والده الدكتور خليل سعاده، آمن الشاب إيماناً مطلقاً بتاريخ أمّته العريق، وقضّ مضجعه السؤال عن سبب الويل الذي أصاب شعبنا، وأدرك وهو المتزوّد بالمعرفة، أنّ أرض الأمّة هي المكان المناسب لتأسيس حركة إنقاذيّة، فقرّر العودة ليضع الجواب الشافي لسؤاله.
وحيداً جاء، ووحيداً بدأ خطوات التأسيس، فقد آمن إيماناً مطلقاً بأصالة شعبنا وقدرته على الانتصار، بالرّغم من كلّ المآسي التي كانت سائدة في مجتمعنا السوريّ من تشرذم وانقسام وتفكّك، فأقبل على هذا الشعب متزوّداً بنبتة الحياة يغرسها في الأرض الخصبة، فقصد الطلبة الذين اعتبرهم نقطة الارتكاز في العمل القوميّ، وهنا وضع حجر الأساس، وبدأ خطواته بثبات غير مسبوق في تاريخ الأمم.
تجاهل سعاده كلّ المعوقات التي كانت تعترض سبيله، سار كما الفاتحين، بل وكأنّه واحد من أهل القداسة الفكريّة، فعمل على تنقية نفوس مريديه الأوائل من كلّ رواسب الطائفيّة والمذهبيّة والأنانيّة، وكان القدوة الجميلة في كلّ مواقفه، فما إنْ انكشف أمر الحزب حتى بدأت معركة التحدّي بينه وبين المستعمر، فلم ترهبه ملاحقة، ولا ثبط همّته سجن، بل على العكس، فقد شكّل السجن مساحة أنتج فيها كتابه الأساس «نشوء الأمم»، وكان بحق عالم الاجتماع الذي لم تشهد له العربيّة مثيلاً منذ رحيل ابن خلدون.
وفي السجن مرة أخرى وضع شرحاً لمبادئ الحزب وغايته، وهكذا رسم القائد معالم الطريق لشعبه، في الفكر والفلسفة والاجتماع، أوجد الهويّة الجامعة لأبناء الأمّة التي ضاعت معالمها بين أوراق معاهدة سايكس بيكو، وأعدّ العدة لمواجهة أعداء الأمة، وعيّن المصطلح النهضويّ تعييناً دقيقاً.
لم يترك الزعيم شأناً من شؤون الحياة الفكريّة والاجتماعيّة إلّا وتطرّق له، فبالرغم من عظيم مسؤوليّاته وكثرة اهتماماته، كان يتابع مسيرة الشعر والأدب التي كانت سائدة في عالمنا العربي وأمّتنا السوريّة، وقد أحزنه ما آلت إليه هذه المسيرة من «فوضى الأدب، وبلبلة الأدباء»، اللتان «تحملان نصيباً غير قليل من مسؤوليّة التزعزع النفسي، والاضطراب الفكري، والتفسُّخ الروحي». كلّ ذلك حفّزه للطلب من الكتاب شعراً ونثراً التوجّه «نحو مطالب الحياة، وقضاياها الكبرى، وخطط النفس السوريّة في سياق التاريخ».
لقد لفتَ الزعيم في مقدّمة كتابه «الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ» إلى أنّ اهتماماته المتشعّبة هي التي «أوجبتْ الاقتصار على الأساسيِّ الضروريِّ، والاستغناء عن الإسهاب والتفاصيل الواسعة المجال»، التي رأى «تركها لاستنتاج المفكرين والأدباء». ومع ذلك، فقد مثّلت كتاباته في هذا المجال المانيفستو الأساسي لحركة الحداثة في الأدب العربيّ.
في السادس عشر من تشرين الثاني عام 1932 أعلن سعاده عن تأسيس الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، ومن يوم الولادة في الأوّل من آذار عام 1904 إلى صبيحة الاستشهاد عام 1949، مروراً بفجر التأسيس، صار لهذه الأمة العظيمة نهضة بدّدت الظلام وأعلنت ولادة نور المعرفة للمجتمع، ولعلّ أبلغ من اختصارات سعاده قوله: المجتمع معرفة والمعرفة قوة.