«في يوم العيد لنا قصة»… دموع وأسى للشاعرة ابتسام الحروب
محمد رستم
في ترنيمة توحي البحّة الحزينة في حروفها بتوجّس مخيف يستنفر أعصابنا منذ البداية… تتّخذ طابع الحكاية حيناً والحوارية حيناً آخر، وترتدي سربال القصة الممسرحة الجذابة أحياناً ويبدأ القَصّ: ثلاث طفلات بعمر الورد يزهق الإرهاب أرواحهن ويشظّي أجسادهن، وتحلّ بالأسرة كارثة الأسى. فتفضح الشاعرة العُربان الذين ماتت فيهم العروبة واغتيل الإسلام جريرة ما اقترفوه، وتوضح كيف تناسى العرب الأقصى وأوقعوا الأذيّة بالشام، فبات الأقصى يواسي الشام حيث أحالوا العذارى سبايا وأغرقوا الشوارع بدماء الضحايا، ووزّعوا الموت هدايا على الأبرياء، بل صاروا يتلذّذون باختيار الموت للضحية ذبحاً قنصاً تفجيراً بسبب روحهم السادية.
وتُبيّن الشاعرة المبدعة أنّ حياة تينك الفتيات تحوّلت إلى قصّة مؤلمة تُخرس الكلام وتستوجب الرثاء… هذه إلمامة سريعة لأهمّ ما جاء من أفكار في القصيدة، ومنذ البداية نلاحظ فطنة الشاعرة في اختيار ثلاث فتيات من بين ضحايا الإرهاب لتسلّط الضوء عليهن. فقد اختارت الجانب الأكثر إثارةً للمشاعر حيث يتفجّر القلب بركانَ أحاسيس وتعاطف. إنها الطفولة، وحتى تكون الإثارة أكثر وقعاً جعلت الأطفال إناثاً، الجانب الأكثر براءة ولطفاً ووداعةً وضعفاً. لتُبرز فظاعة الجريمة، وتُسلّط الضوء على الحياة الرغيدة التي كنّ ينعمن بها إلى أن تساقطت القذائف أمطارَ حقدٍ تحمل الموت. وتساءلت الفتيات:«لِمَ قتلنا؟ كنّا نحلم بأن نصير طبيبات»! ولهول الصدمة يبكي الجدّ ويُغمى على الجدّة، وتبدأ تهلوس عدن: يا صغيراتي لأحكي لكنّ في الليالي الطويلة حكايات عن ليلى والذئب، وغيرها من الحكايات.
وتُبيّن الشاعرة أنّ حكايتنا هذه المرّة صارت عن عن «الأمّة العربية» التي فقدت عوامل ترابطها، ومات الإسلام فيها كما ماتت «النخوة العربية».
أيّ مَلَكة إبداعية متّقدة تملكين أيتها المبدعة حتى يجيء البوح مرتدياً طابع الحكاية الحواية. إن الصفع اليوميّ للأحداث الإرهابية المؤلمة من دمار وخراب وسفك دماء جعل الشاعرة تتماهى مع حروفها المتعشّقة مع سوداوية الآلام التي تتمخّض عنها هذه الجرائم. إلّا أنّ هول اللحظة المؤلمة لم يُفقدها الدرب، فظلّ الوعي حارساً معنى التجربة الشعرية. وامتلاك الشاعرة أدواتِها الفنيةَ جعل الحروف تنساب في إيقاع موسيقيّ دافئٍ مع الجوّ الجنائزي.
ومع أنّ الحدث واضح المعالم وقلوب الناس تتلمّسه وتبصره قبل عيونهم، فقد أحالته الشاعرة إلى عالم شعريّ آخاذٍ عطرته من رحيق وجدانها وخوابي آفاقها الشعرية، فتحوّل النصّ إلى صيرورة إبداعية فتحت فيه آفاق التخيّل، وبدا البوح موحياً تاركاً للقارئ فضاءات التصوّر.
أيّ اجتراحات تعبيرية هذه التي تجعلك تحلّق حزيناً في أجواء عالم مؤلمٍ؟ أيّ حروف مضرّجة بالروعة؟ تصرخ المشاعر المتألمة الحزينة أسى ولوعة وحرقة فيها. لقد أبدعت الريشة الفنّية للشاعرة في رسم صورة واضحة المعالم ودقّقت في جزئيّاتها، فبدت الشخوص حيّةً تضجّ بالحركة. الأمّ تنادي، ما أدهشنا وجعل الصوَر تتعشّق مع ذاكرتنا، وجاءت نبضات حروفها متموسقة مع الحالة الشعورية والانفعالية الحزينة لدى الشاعرة. الشام يواسيها الأقصى… آه لو نحيا… إلخ.
وأجادت الشاعرة بناءَ القصيدة الدراميّ، فجاء هارموني النصّ متساوقاً مع الدلالات الشعورية للكلمات بما يقتضيه الحدث. واعتمدت الشاعرة المجاهِرة بما يعتمل في وجدانها من شغف في فضح جرائم الإرهاب، فجاءت القصيدة معادلاً موضوعياً للواقع. وبكرم الطائيّ أترعت الشاعرة حروفها بالأسى ليكون دافعاً لرفض الإرهاب وجرائمه، فباتت القصيدة سمفونية للأسى والحزن.
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى بعض الهِنات، وردت في جسد القصيدة من دون التأثير على نبض الحياة فيها. إذ قالت: «كانوا أخوة… وردات صاروا». عدا ذلك، فإن حروف الشاعرة خطاب إبداعيّ يستبطن شكل مغامرة تبحث عن أنماط جديدة من التجسّد، ولعلّها تعبّد طريق هذا الشكل من اللبوس الشعري الدافئ وتكون رائدة له.
في يوم العيد لنا قصة
عن هند وسعاد ورباب
كنّ أروع أخوة
وردات تتراقص حبّاً
في يوم ضباب
والأم تنادي خائفة
بناتي هيا
أمطار قد صارت بالباب
أماه لم ننهِ الجولة
لم يبقَ سوى بعض الألعاب
ضحكات قد صارت ماضياً
دورك أنت لا بل أنت
ضحكات
ضحكات
ضحكات
قدر يأتي ضحك يبكي
صمت يُطبق في لحظات
حافية عارية القدمين
تصرخ وتنادي في ألم
أخوتك رباب
هل ماتت كلّ الزهرات؟
أمّاه… ما الذنب؟
قتلنا
كنّا نحلم بالمستقبل
آه لو نحيا
كنّا مشروع طبيبات
كتب المدرسة ممزّقة
ما الذنب هيا أجيبينا؟
أقلام ترثي الصفحات
ربّاه من هول الشدّات
والجدّة قد فقدت وعياً
تبكي مَن كنّ حبيبات
هيا عدن فالليل طويل
سنروي قصصاً وحكايات
عن ليلى تعشق قيساً
عن ذئب أكل الغنمات
عذراً من كذب الجدّات
هذه المرّة القصة مُرّة
والعرب لقصّتنا رواة
في هذا العيد لنا قصة…
عمّن كانوا يوماً أخوة
أجساداً غرقوا في اللذّات
والشام يواسيها الأقصى
تشكو وتناجي خالقها
ودعاء هزّ السموات.
أديب سوري