«تأتين من جهة الجنون»… نثير آيل للسموّ بدلالة المكان!
النمسا ـ طلال مرتضى
القصيدة التي صارت رجعاً، فقط ترديدة في خواء الريح، عارية لا ظلّ لها إلا الابتهال. والابتهال مقام ترجّي يجترحه الشاعر المؤمن ـ حين تشيخ بين أصابعه المفردات لتطير صوب الخواء ـ يلحن به على وقع الخسارات.
الخسارات التي لا يعترف بها الشعراء، تدوين أمانٍ سالفة آيلة للسموّ.
ليس ترفاً حين ارتكب العميد محمد رمّال معصية القصيدة، ففي «تأتين من جهة الجنون»، مجموعته الشعرية الصادرة عن دار النهضة العربية البيروتية 2016، بعض من ضياع، وبعض من ندم. وحين نحى صوب الولادة كان يعي بكامل أهليته الشعرية، بأنها خلاصه الوحيد للتطهّر وتحرير ذاته من إثم الحبر العظيم.
تفكيكاً نتلمّس، منذ المطلع الأول ـ العنوان ـ خواء الشاعر إلا من فكرته إذ إنه رصد منجزه كاملاً على قيد الانتظار «تأتين من جهة الجنون».
تلك ما يسمى قبض الريح، دوامة الشاعر الذي تاهت بوصلة روحه، كيف لا وهو الدائب نحو تشكيل نقطة ارتكازٍ يتّكئ عليها في ضمار وعيه اللاوجودي.
رصداً، كان هاجس الشاعر منذ نصّه الأول البحث عن كينونته، والتي صارت مع ترافد النصوص وتواترها، صيرورة يردّدها دونما انقطاع. لا ليروي غرورَ الشعر، بل ليضع حدّاً لضياعه. بالسؤال، كيف يذهب نحو أقصية القصيدة رخيمة المفاتن من دون مستقرٍّ له. لهذا، وَشَتْ دوالّ النصوص ـ أي دالّها ومدلولها ـ بفقد الشاعر سلطةَ المكان، فضاء القصيدة، وجوهر الرؤية الشعرية ومحرّك فيوضها. هذا اللاانتماء كان طفرة، خلق قصيدة محمد رمّال اللاهجة نحو التأصيل بالبحث عن نقطة ارتكاز ـ مكان ـ حينما تأتّت في مطالع النصوص مثل نقاط علام:
أنا الواقف عند ناصية المكان.
أدركوا أننا روحان في جسد.
أننا طفلان لن يتَّسع لحبّهما بلد.
تعالي… نفتّش عن بلدٍ يتَّسع لقلبَيْنا إلى الأبد.
كذلك:
أنا مصباح الطريق…
سكنَتْني الريح وتكاثر في صومعتي الطير…
تسلَّقني الصبيَةُ ورشقوني بالحصى…
تهامس تحت ضوئي العشَّاق…
وأيضاً:
وأبحرَتْ يداي تبحث عن مدنٍ جديدة.
وأسمّيكِ الرحيل للمدن التي أوجدها الله في ذاكرتي.
«تأتين من جهة الجنون»، هو رحلة البحث عن المكان. والمكان في قصيدة العميد محمد رمّال بمثابة الذات المتفلّتة بهيئة عشق ينساب من بين أصابعه كزئبقٍ يمتطي خطّ الحنين:
… ولسوف يأتيكِ عشقي
باسماً مثل عينيكِ
هارباً منكِ إليكِ
قاسياً مثل الحنين.
بعيداً عن فعالية التجلّي. انكشافاً بحامل الأسئلة التي تزيح إيهام المعاني، تبريراً لكنايات القول التي جرّته نحو شبهة التأويل، يسأل:
هل وصلكِ بريدي هذا المساء؟
فأنا أكتب أحلامي كلَّ مساءٍ وأبقيها لديّ
وأحلم أنني أجمع كلَّ رسائل العشق في راحتَيّ
وأسألها الرجاء…
وأسأل…
عن أميرةٍ صغيرة
عن أنثى طفوليّة العينين والضفيرة.
نعم، إنه الضياع الذي لا ينفكّ ملازماً الشاعر حيثما ولّى وجهه. الضياع الوجودي المحسوس الذي هيّج الذات المبدعة التي تملك حساسية شفيفة، لتبدأ ترجمته إيماءً واتّكاءً على سلطة الغائب البعيد في قصائد العميد محمد رمّال، الذي داوَمَ على مناداته منذ التشكيل الأول، حضوراً في المطالع:
يا رجْعَ أحلامٍ كسَتْها كوابيسُ ليلٍ طويل.
يا حصارَ الشهوة بالندى.
يا وعْدَ القلب الحائر بالعشق الجميل.
يا قمراً ينام تحت وسادتي.
يا احتراقي…
يا عاصفتي يوم تمسكين الريح.
يا قاتلتي من الرمق الأوّل…
إلى حيث ينتهي صدى النداء بـ:
يا ناراً حلَّتْ على قلبي بَرْداً وسلاما.
يا قدري ولهفتي.
لأخلص، وفي قراءة متواضعة، إلى أن العميد محمد رمّال ومن خلال منجزه «تأتين من جهة الجنون»، استطاع تشكيل نقطة ارتكاز لنثيره من خلال تجلّيه، أي ظهور صوَره الدلالية، لتكون الحاضرة الفنية المجازية المكان ، والتي سلّمتني مفاتيح النصوص لاستكناه أسرارها.