لبنان و«الكيان المأزوم» بنيوياً…

زهير فياض

«الكينونة اللبنانية» ظاهرة مركّبة، ذات جوانب متعدّدة، متشعّبة، متنوّعة في معانيها، منذ النشأة.

وإشكالية هذه «الكينونة» ولّدت سلسلة إشكاليات متلاحقة، طبعت الحياة السياسية اللبنانية بطابعها الخاص، وبنكهتها المميّزة، مع أنّ سياقات «النشأة اللبنانية» هي جزء لا يتجزأ من سياقات الأحداث في المنطقة برمّتها، وإنّ مثلت «التجربة اللبنانية» نموذجاً خاصاً في صياغة العلاقات على مستوى الداخل والخارج.

عبثاً، نحاول قراءة الجزء بمعزل عن الكلّ، عبثاً نحاول استقراء الواقع «اللبناني» خارج القراءة الكاملة «للواقع التاريخي والجغرافي» الذي يشكّل لبنان جزءاً لا يتجزأ منه، إذ إنّ مفهوم «المدى الحيوي»، و «العمق الاستراتيجي» يبدو أكثر تجذّراً في فهم علاقة لبنان بعناصره الداخلية، وبأجزاء «البيئة الطبيعية الجغرافية القومية – التاريخية التي ما انفكّ واقعياً وفعلياً ومنطقياً يشكل جزءاً لا يتجزأ منها بموضوعية علمية بعيدة عن كل «مكوّنات الغرور والاستعلاء اللبناني» غير المبرّر في مقاربة مسائل تتصل بقضايا الهوية والانتماء والتفاعل والتكامل والتواصل في المدى المكاني والزماني برمته.

لذا، من الطبيعي، أن يكون للحدث اللبناني امتداداته وتشعباته، وتأثيراته على المنطقة بأسرها، وكذلك الحدث في «البيئة» له امتداداته وتأثيراته على الإطار «اللبناني»، وهذا لا يدخل في سياق «المستجدّ»، بل في نطاق «الثابت الحقيقي» المستمر بفعل الترابط والتواصل والتوحّد في سياق واحد من المصير والدورة الحياتية الاقتصادية الاجتماعية، وفي سياق واحد من الفعل السياسي الأمني الذي عبّر عن نفسه في مراحل مفصلية من التاريخ ولا سيما القريب منه، قبل البعيد.

«سايكس بيكو» لم تأتِ صدفةً، بل جاءت في إطار «مشاريع استعمارية كبرى» لها رؤيتها لخريطة المنطقة، وكل بلادنا ما زالت تعيش الى اليوم لحظة «سايكس بيكو»، بمعنى التقسيم والتفتيت والتجزئة والإمعان في الشرذمة، ونواجه في هذه الأثناء «نماذج» قد تكون أكثر «كارثية»، في تقسيمات جديدة تأخذ المعيار الاجتماعي لتفجير مجتمعنا من الداخل أي «سايكس -بيكو اجتماعي»، كمدخل لمزيد من الانحسار على رقعة «الجغرافيا».

لذا تتداخل المآزق اليوم بين «الكياني» و «القومي»، بين الذاتي والموضوعي، إذ إنه بات لكل «كيان مصطنع» بفعل سايكس – بيكو أزمته الذاتية، مُضافة اليها الأزمة البنيوية الكبرى، أزمة الوجود القومي والإنساني والتاريخي والحضاري في هذه البقعة من العالم.

ولبنان بطبيعة الحال له حصة الأسد من أزمات بنيوية عميقة تتعلق بتركيبته الداخلية أولاً، بنظامه السياسي الفريد من نوعه ثانياً، وبدولته غير المكتملة ثالثاً، وبقوانينه وتشريعاته رابعاً التي لا تعبّر عن حقيقة «النموذج» الذي لطالما تشدّق اللبنانيون بأنهم يمثلونه، أي نموذج الوحدة الاجتماعية والحقوقية، أو «الأنموذج – الرسالة» أو «المختبر» لأفكار الإصلاح الوطني والقومي والدولتي العابر للحدود الكيانية الى رحاب الوطن الكبير.

ومن يراقب مسار «الكيان اللبناني» خلال مسيرته في العقود الماضية، يدرك أنه مسار «الأزمات المتلاحقة» و «المتكررة»، و «المتناسلة» في الأمن، والاقتصاد، والسياسة، والثقافة والتربية والمفهوم، في علاقاته الداخلية والخارجية على سواء.

أزمة «الكيان» لها جوانب مختلفة منها ما هو مرتبط بـ «الهوية»، ومنها ما هو مرتبط بـ «الانتماء»، ومنها ما هو متداخل ويتراوح بين «فقدان الذاكرة التاريخية» إلى «جهل التاريخ نفسه»، في أغرب وأعمق حالة انفصام وازدواجية واغتراب في مقاييس الزمان والمكان.

هل نستغرب هذه المراوحة «الغريبة»، وهذا التخبّط الهائل في الأزمات وعلى كل المستويات، وعلى كل الصعد بدءاً من أزمة النفايات، والمديونية، والتفاوت في توزيع الثروات، تعميق الهوة بين فئات المجتمع، وصولاً الى غياب مفهوم واحد للمواطنة، استشراء الطائفية والمذهبية، وطغيان المصالح الرأسمالية الفردية وضياع في الهوية أدّى ويؤدي الى هذا الخلل في العلاقة مع المحيط، وهذا ينعكس حكماً، وبطبيعة الحال، على العلاقات السياسية المأزومة، مما أدّى إلى أخطاء في أداء السلطة كنتيجة لضرورات المحافظة على توازنات دقيقة مستحيلة.

ما نشهده اليوم هو جزء من مسلسل أزمات بنيوية تتوالد في سياقات الصراع المحموم الذي نعيشه في بلادنا بالإجمال، وهذا يؤكد أكثر فأكثر استحالة الفصل بين لبنان ومحيطه القومي، وبعده الجغرافي التاريخي الاستراتيجي، وكل أزمات لبنان هي نتاج لتجاهل هذا الترابط في المصير الواحد والحياة والواحدة والمستقبل الواحد.

لقد شكّلَ إنجازُ الاستحقاق الرئاسي مدخلاً لإعادة تشكيل السلطة على مستوى الدولة، في ظل دينامية صراع متحركة بوتائر سريعة على مستوى المحيط والمنطقة، وفي ظل علاقات دولية غير مستقرة تعكس نفسها في مناطق مختلفة من العالم.

ولكن، ثمّة مطبات وإشكاليات لها علاقة ببنية النظام نفسه، شكلت وتشكل عوائق ذاتية تحول دون انتظام العمل المؤسسي وفق المفهوم «الدولتي» الذي يطمح كل مواطن في الوصول إليه.

نحن نحيا تاريخياً، زمن التسويات «المؤقتة» و»الظرفية» التي غدت لازمة ترافق الحياة السياسية اللبنانية في كل العهود والحقبات، ولعل رحلة «التأليف الحكومي» بعد «التكليف» لا تخرج عن هذا السياق «التسووي» في كيانٍ مأزومٍ جلّ ما يمكنه «استيلاد التسويات» على كل مفترق محلي وإقليمي ودولي…!

عميد في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى