ما الارتباط بين العملية الروسية النارية ومعركة حلب؟
العميد د. أمين محمد حطيط
تعدّدت المواقف الروسية ميدانياً في ما خصّ الحرب الدفاعية السورية، حتى انّ بعض المراقبين تاهوا في التفسير وجاءت تفسيرات متناقضة لا يخلو بعضها من السلبية، والآن وبعد التوقف الروسي الحازم ولمدة شهر تقريباً اعتباراً من 18 تشرين الأول الماضي، حيث توقف الطيران الروسي عن العمل في سماء حلب لدعم القدرات الدفاعية السورية وتأمين الغطاء الجوي الناري المناسب للقوى التي تحاصر أحياء حلب الشرقية ما مكّن المجموعات الإرهابية من إطلاق عمليات فك الحصار التي كان آخرها عملية ملحمة حلب الكبرى التي أُجهضت. بعد هذا التوقف اتخذت روسيا قراراً استراتيجياً كبيراً باستئناف العمل الناري وتنفيذ القصف المتعدّد الأهداف في سورية ضدّ الإرهابيين وعلى أهداف استراتيجية نوعية، بقيت حلب مستثناة منها. مع هذا الاستئناف للقصف يُطرح التساؤل حول خلفية السلوك الروسي ومؤدّاه ومدى ارتباطه بمعركة حلب الأساسية.
قبل الإجابة على التساؤل لا بدّ لنا من التذكير أنّ فهم سلوك طرف ما، ينبغي أن يبدأ بفهم طبيعة هذا الطرف وأهدافه الأساسية، وانطلاقاً من ذلك نؤكد بأنّ روسيا في سورية تتصرّف كدولة لها مصالحها المتنوّعة من سياسية واقتصادية وعلاقات دولية، فضلاً عن مصالحها الأمنية والعسكرية، ولا تتصرف فقط كجيش أتى ليقدّم المؤازرة لجيش حليف وصديق ويخضع لمقتضيات العمل العسكري وحدها. فروسيا في سلوكها تخضع لمقتضيات مصلحة الدولة ولا تنحصر بمقتضيات المصلحة العسكرية الميدانية التي يمكن الا تتوافق في لحظة معينة مع الفئة الأخرى من المصالح، وبهذا نفسّر كيف انّ العسكريين الروس في سورية لم يستسيغوا القرار السياسي الروسي بوقف العمليات العسكرية فوق حلب وناشدوا القيادة السياسة بالتراجع عنه إلا أنّ الأخيرة لم تستجب، لأنها غلّبت المصلحة العليا الشاملة للدولة على المصلحة العسكرية الخاصة بالميدان السوري. وبالفعل قطفت القيادة السياسية الروسية ثمار قرارها نجاحاً ترجم في الانتخابات الأميركية كما تُرجم باستمرار الاتصال التشاوري المحدود مع الغرب وتحديداً مع أميركا بخصوص سورية، فضلاً عن لجم الاندفاعة الغربية ضدّ روسيا في مجال العقوبات.
ونعود الى السؤال المتصل بالعملية العسكرية الروسية التي بدأت بالأمس، وهنا نرى انّ هذه العملية نفذت من قبل أهمّ منظومة نارية روسية استعملت تكاملياً منذ عقود، عملية نارية شارك فيها سلاحا الجو والبحر وخدمته منظومة دفاع جوي متطوّرة غطت بفعاليتها كامل الشاطئ السوري وبعمق 270 ميلاً بحراً و450 ميلاً براً أيّ ما يصل الى كامل المنطقة التي يتحرك فيها الطيران الروسي بالإضافة الى دمشق وريفها، واستعملت فيها أسلحة ذات دقة عالية تصيب أهدافها بدقة الأمتار المعدودة، وهنا قد يطرح السؤال طالما انّ القرار الروسي اتخذ باستئناف القصف لماذا لا تتوجه روسيا مباشرة بنيرانها الدقيقة والثقيلة هذه إلى حلب وتقدّم المؤازرة والمساندة للقوى المحتشدة هناك وتنهي معركة حلب كما ينتظر الجميع؟
في معرض الإجابة أيضاً نرى وجوب التذكير بمسائل تتعلق بحلب في أحيائها الشرقية التي يغتصب الإرهابيون السيطرة عليها ويتخذون ممّن تبقى من أهلها وهم حوالى 150 ألف مواطن يتخذونهم دروعاً بشرية يحتمون بهم، ففي هذه الأحياء يتحصّن حوالي 12 ألف مسلح من فصائل إرهابية متعدّدة غالبيتهم من جبهة النصرة فيهم الكثير من جنسيات غير سورية ولكن السوريين لا يُستهان بعددهم أيضاً. وهذه المجموعات الإرهابية لن تتورّع عن القيام بأيّ شيء واللجوء الى المحرّمات بما في ذلك الأسلحة الكيماوية.
وهنا نرى أنّ العملية العسكرية الروسية وإنْ كانت لا تتجه في بنك أهدافها الى حلب مباشرة، فإنها تعتبر في خدمة هذه المعركة وتمهيداً وتسهيلاً لوقائعها، حيث إنها وبالنار الدقيقة والمركّزة استهدفت المسلحين في كلّ من ريف حلب الجنوبي الغربي وفي إدلب وفي حمص، فقصفت تجمّعاتهم وتحشداتهم ودمّرت معظم مصانع أسلحتهم وذخائرهم التقليدية والكيماوية وقوّضت البنية اللوجستية لهم في تلك المناطق ما أدّى ويؤدّي الى النتائج التالية:
1 ـ حرمان المسلحين من القدرة على التحشيد وإمداد القوى المحاصرة في حلب بأيّ نوع من أنواع المساعدة. الأمر الذي سيؤثر حتماً على القدرات القتالية والصمود لدى المسلحين في حلب عندما يبدأ الهجوم عليهم، ما من شأنه أن يخفف من ضراوة المعركة وحجم الخسائر المادية والبشرية لدى الطرفين.
2 ـ إنتاج بيئة نفسية سلبية في أوساط المسلحين تساهم في اقتيادهم الى الانهيار الإدراكي المعنوي. وقد سجلت ردود فعل بالغة الأهمية في صفوفهم مع الساعات الأولى للضربة، الأمر الذي يوحي أيضاً بأنّ معارك التطهير ستكون أسهل عند الانطلاق بها.
3 ـ تعزيز الثقة بين الحلفاء وقطع الطريق على موجة التشكيك من قبل بعض الأقلام بالموقف الروسي الحقيقي في سورية، الأمر الذي يعزز مكانة وقوة التحالف الروسي السوري الإيراني وحزب الله ويعزز قدراته في الحرب ضدّ الإرهاب.
4 ـ أما على صعيد العلاقة السياسية مع الأطراف الداعمة أو المستثمرة في الإرهاب، فإنّ هذه الضربة وارتباطها بمعركة حلب تشكّل عامل ضغط عليها للمساهمة في تسوية غير عسكرية لأحياء حلب الشرقية على غرار ما حصل في مناطق سورية أخرى مؤخراً كحمص وداريا ما يبعد المعركة التي تتسبّب بالخسائر، كما أنه يُعطي تلك الأطراف فرصة الإبقاء على التواصل والحوار بشأن سورية.
أما الخلاصة التي لا بدّ منها في هذا السياق، فإنها تؤكد على مسائل أساسية منها أنّ موضوع حلب أمر محسوم، ولن يكون تراجع أو مساومة عليه، وانّ معسكر الدفاع عن سورية ووحدتها جادّ في معركة حلب خاصة، أنه حشد لها من القوات البرية ما يمكنه من خوض معركة تطهير مضمونة النتائج وانّ استمهاله في إطلاقها مرتبط فقط بحرصه على أرواح المدنيين ورغبته في الحدّ من الخسائر في صفوف القوى المهاجمة، ورغبة روسيا بإبقاء قنوات الاتصال مع الغرب، وخاصة أميركا بعد وصول ترامب الى السلطة، وهو الذي وعد بمحاربة الإرهاب والانكفاء عن التدخل في شأن مَن يحكم سورية.
أيّ بكلمة مختصرة نقول إن الحملة النارية الروسية على الإرهابيين في سورية هي حملة تمهيد وتحضير للمعركة الرئيسة في حلب دون التسبّب بقطع الاتصال مع الغرب، ولهذا استبقت روسيا إطلاق الصاروخ المجنّح الأول باتصال بين قيادتها مع الألمان والأميركيين من قبيل التنسيق السلبي في هذه المرحلة أملاً في أن يتطوّر التنسيق في عهد ترامب الى ما هو أبعد من ذلك في الحرب الجادة والفعّالة ضدّ الإرهاب.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية