حزب الله من الإدراك المحدود للمكان إلى الجيوبولتيك

صادق النابلسي

يحضر حزب الله في صراعات الجيوبولوتيك التي تُخاض بأشرس ما يكون على ثرى هذه المنطقة وجوّها وبحرها لتثبيت معادلات قوة تدوم لسنين قادمة، مسلّحاً بفكرة الأمة – القرآنية الجذر- التي لازمت أدبياته الدينية والسياسية منذ نشأته عام 1982 ، والتي تعكس في واحدة من معانيها وأبعادها علاقة الجماعة بالمدى الجغرافي والانتشار فيه. وأيضاً بـ الأطروحة المهدوية التي تُوجب على الممهدين للإمام الثاني عشر عند المسلمين الشيعة تهيئة الأرضية المناسبة لخروجه، أو بمعنى آخر، خلق الإمكانيات النفسية والثقافية والعسكرية والجغرافية لتأسيس سيادة عالمية تقوم على القسط والعدل. في الحقيقة إنّ نمو الفهم الجيوبولتيكي لدى القادة الاستراتيجيين في حزب الله هو حادث وطارىء ومن روح ما بعد حرب تموز 2006. قبل التحولات الدراماتيكية في سورية والمنطقة كل كلام عن وضعية جيوبولوتكية للحزب، لا تتعدى إطار الدائرة اللبنانية، ولا تتجاوز مبدأ الإدراك المحدود للمكان في سياق الصراع مع العدو الإسرائيلي، لكن بعدها بدأ الحزب يدرك -كما يقول المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل- أنّ « الخرائط هي التي تروي القصة الحقيقية «، وأنّ هناك ضرورة لخلق توازن جغرافي يلبي الحاجة للسلم والاستقرار ويردع العدو من التوّسع والعدوان .

صحيح أنّ الحزب يمتلك رؤية دينية تتعلق بالمكان والتحولات التاريخية ولكن لا يمكن أن يضعها إلا في الإطار النظري طالما هو حزب لبناني محكوم لقواعد الانتظام العام داخل الدولة التي يتحرك فيها، وطالما أنّ وجوده غير مهدد وأرضه غير مستباحة ودولته غير معرضة للانقسام أو الزوال، ولا شيء من موجات التطهير العرقي والديني والتغيير الديمغرافي بادية على سطح أي تحولات قادمة، أمّا أن يكون بنفسه داخل ميادين التأثير الجيوسياسي فهذا يتطلب الحضور الفاعل والقوي في ساحات الأزمات وهذا ما لا يمكن أن يحصل إلا في ظل ظروف تشهد فيها الخرائط والمصائر انفجارات كبرى كما هو الحال اليوم.

لا شكّ أنّ حزب الله طوّر وعيه بالوجود وشكّل لنفسه إدراكاً مكانياً لساحة سيطرته في الدائرة اللبنانية، ولعناصر قوته التي تنطلق منها ديناميكيته خارج هذه الدائرة لتلتقي بالدوائر الأخرى السورية والعراقية والإيرانية التي تشكّل جميعها الهيكل الاستراتيجي لمحور المقاومة الذي يمتد على أرضية جغرافية واسعة ويتخذ من طهران مركزاً له، وهذا المحور تأسّس كقوة مؤثرة على ساحة التاريخ الحديث في إطار الصراع والتنافس مع محاور إقليمية أخرى مركزها اسطنبول والرياض وتل أبيب أرادت تجسيد سيطرتها وهيمنتها على الأرض بواسطة العنف والعدوان، وعبر تدمير التوازنات الاجتماعية والسكانية القائمة، وإزالة الحدود التاريخية التي ترمز إلى شرعيات الدول وسيادتها، في إطار فهم جغرافي ـ سياسي ـ عرقي ـ طائفي جديد لا تعود فيه جغرافية دولة ما ولا التركيبة السكانية داخلها عاملاً ثابتاً وصلباً. وهذا ما ظهر واضحاً منذ تطور الأحداث في سورية حيث اشتركت كل من تركيا والكيان الإسرائيلي في تدعيم سياستهما التوسعية تجاه الدول المجاورة لهما، في عودة مجنونة إلى نظرية فريدريك راتزل مؤسس علم الجغرافيا السياسية الحديث التي يقول فيها: «إنّ الدول تشبه الكائن العضوي الحي وهي على نحو دائم تحتاج إلى التغذية، تماماً كالكائنات الحية، وإنّه لا يمكن تغذية الدول إلا باحتلال أراضٍ جديدة، وأنّ الدول التي تبقى عاجزة عن خوض صراع التغذية ستزول عن الوجود». ثم في محاولة الوصول إلى حالة الاكتفاء والإشباع الترابي في إطار بناء قوة مركزية إقليمية، أو في سياق المنافسات والصراعات الدولية، أو لتحقيق أهداف استراتيجية تلبي طموحات وتطلعات قديمة كانت تركيا و إسرائيل تتحيّنان اللحظة التاريخية المناسبة لجعلها حقيقة ملموسة.

قد يقول قائل إنّ الملك الأردني عندما طرح مصطلح الهلال الشيعي عام 2004 إنّما كان يعبّر عن الأفكار الجيوبولتيكية التي كانت تدور في خُلد الاستراتيجيين الشيعة من إيران إلى العراق فسورية وصولاً إلى حزب الله في لبنان في إطار تصوّر مكاني ـــ ينطلق من إدراكات الأنا ـــــ ينسجم مع الموروث الديني ومع الوجود الشيعي المنتشر في هذه البلدان، لكن لا دليل على كلام الملك الأردني إلا في سياق حرف أنظار المسلمين عن الاحتلال الأمريكي للعراق وما كان يجري من مخططات استيطانية وتهويدية داخل فلسطين، وإلا في سياق تكوين إطار تفسيري تضليلي، للأحداث والتوترات المحمومة القائمة، تقوم على فكرة الصراع السني ــ الشيعي . لكن لو أجرينا عملية تقييم للنماذج التاريخية والجغرافية منذ ذلك الوقت، لتبيّن معنا أنّ الخلفية الحقيقية لكل مستويات الصراع في المنطقة والعلاقة السبية للأحداث الدامية التي تنامت بشكل سريع، تستوي بالكامل على النزعة الاستعمارية التوسعية الجديدة وتجاوز الحدود القديمة لدول المنطقة وبسط النفوذ عليها ثم محاولة تجميع جغرافياتها كلها ضمن قالب محوري جديد، أمّا الصراع السني ـ الشيعي فهو أكثر بساطة، لو تم عزله في دائرته الفقهية ــ الكلامية، من أن يستوعب أو يُفسّر التطورات الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي تسببت بها قوى دولية وإقليمية متعددة.

إنّ نفي مصطلح الهلال الشيعي بخلفيته المذهبية لا يلغي في المقابل انعدام أي مقاربات جيوبولتيكية لهذه الدول. فمع اندلاع الأزمة في سورية ازدادت بين هذه الدول العلاقات الارتباطية وتطورت الإدراكات الجيوسياسية لتلقي بثقلها على العلاقات والتوازنات الإقليمية والدولية. مما لا ريب فيه أنّ الخيارات السياسية هي التي دفعت بهذه الدول إلى تعزيز مصالحها الجيوبولتيكية من خلال تفاهمات واتفاقات مشتركة تحفظ لكل دولة استقلالها ووحدتها الترابية وخصائصها الثقافية والدينية من جهة، ولمواجهة أطماع المعتدين وتغلغلهم إلى ساحات المنطقة ومحاولة تقسيمها بعملية قسرية دامية من جهة أخرى.

وإذا ما أردنا ملاحظة الوضعية المكانية لحزب الله فلا شك سنجد أنّ إدراكاته الجيوبولتيكية لم تعد حبيسة القوالب الأولى بل أصبحت أكثر شمولية وفهماً خصوصاً عندما بات جزءاً من اللوحة الجيوبولتيكية لمحور المقاومة الذي بدأ تفعيل الصلات السياسية والعسكرية بين أعضائه لإقامة وضع توازني في مواجهة المحاور الأخرى .

وجاءت الميزات الجيوسياسية التي يتمتع بها تواجده على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وعلى الحدود الشرقية مع سورية، وقوته السياسية داخل المعادلة السياسية اللبنانية لتشكل فيما بعد قاعدة إدراكية عن نفسه منطلقة من المكان الأصلي الذي ولد فيه وصولاً إلى اللحظة التي بات فيها قوة مؤثرة في الساحة التاريخية.

إنّ انتصاره في حرب تموز2006 على العدو الإسرائيلي وصونه الوحدة الترابية للكيان اللبناني من التمزق أثناء العدوان وبعده، ودوره الكبير في الحفاظ على الدولة السورية كياناً ونظاماً ضاعف من أهميته الجيوبولتيكية. في المقابل إنّ ارتباطه بالقوة الجيوبولتيكية لمحور المقاومة عاظم من تأثيره السياسي المحلي والإقليمي وبات أحد الفاعلين واللاعبين الأساسيين في معادلات السلم والحرب، ونتيجة هذا الارتباط صار بإمكانه التحرّك والعبور والانتقال بين ميادين مختلفة والعمل مع حلفائه ضمن استراتيجية متكاملة لمواجهة دول وجماعات تريد تغيير الحدود السياسية أو تشكيل ساحات تأثير جيوسياسية بمعزل عن إرادة ورغبات الشعوب وبمنأى عن القانون الدولي.

في مواجهة ما يحصل على صعيد المنطقة من تمزّقات وحروب وفتن وتقسيمات تتداخل فيها المعطيات الداخلية والخارجية بنحو شائك، فإنّ من حق حزب الله ودول في المنطقة تشكيل تحالفات تُستخدم فيها العوامل والميزات الجيوبوليتكية كأداة تأثير في عملية بناء السلم وتحقيق الاستقرار وبما يحفظ للحزب حضوره وبقاءه وللدول الحليفة له وحدتها وسيادتها واستقلالها

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى