صباحات
الدماء هي رأسمال الأمم القوية، تعرف كيف تستثمرها نحو الارتقاء للعَظَمة. والأمة العجوز يكثر عدد سكانها وتزداد قوّة نيرانها، لكن شرايينها تجفّ، وتشحّ ينابيع دمائها فتهزم. ليست الدماء تضحيات الأمم والأوطان، بل استثمارها الذهبيّ للمجد. وحدهم يحقّ لهم التحدّث عن التضحية أسَر الشهداء، وتُقاس المجتمعات بنُبلها في مستوى الوفاء لهم، لأنهم وظّفوا الرأسمال الأغلى وتنعّمت المجتمعات بالفوائد العالية للأرباح.
لا تسمعوا ما يقوله ترامب وفريقه عن إيران وفلسطين، وإلا نسيتم أن حرب إيران وفلسطين هي تلك التي تدور في سورية. فكلام المشاغلة والمبالغة والطمأنة والادّعاء والتباهي شيء، أما المواقف الفعلية، فحيث تدور رحى الحرب التي تقرّر قوة إيران وضعف «إسرائيل»، مزيد من التورّط في سورية هو التبنّي الجدّي لأمن «إسرائيل» والتعطيل الحقيقي للمكتسبات الإيرانية النووية والانكفاء من حرب سورية تكريس لنصر إيران وطعنة للمشاريع «الإسرائيلية». بعد ذلك يريد ترامب التصعيد كي لا تهيمن إيران على الإقليم، ويريد دعم «إسرائيل» كي لا تنهار ولا يصيبها الذعر. نتحدّث بعد نصر سورية.
لا تضيّعوا أوقاتكم في مراقبة كيف سيشكّل ترامب إدارته ويرسم سياسته بين ادّعاءات عَظَمة فارغة وعقيدة جمهورية متطرّفة وحسابات واقعية يفرضها الفشل. فهو نفسه ضائع لأنه لحظة احتجاج أميركية صارخة على خطط الحرب الفاشلة والهروب الضعيف لا يملك خطّ سلام، بل مياومة نتابعها بالمواقف من الوقائع لا من الورق الذي سيكتبه المستشارون والوزراء، ولا من أسماء المرشّحين لتولّي المسؤوليات.
كما قلت لكم، حتى نهاية انسحاب الجندي الأميركي الأخير من أفغانستان في كانون الثاني المقبل، ستكون بشائر نصر سورية قد اكتملت في حلب وغير حلب. من الآن وصاعداً سيبدأ تدحرج الانتصارات، وتعداد الهاربين والمنسحبين والمواقع المتساقطة كالمطر. ستّون يوماً ستسمعون بسقوط ستين قرية في يوم واحد.
النصر والهزيمة في الحرب لا تصنعهما قوة النار، ولا تقرّرهما أحجام الخسائر. بل تصنعهما مواصلة القدرة على بذل الدماء، ويقرّرهما امتلاك القدرة على التجرّؤ لخوض حروب جديدة.
ليست السياسة فنّ إدارة حلف موقّت بين حليفين دائمين، ولا خلافاً موقّتاً بين خصمين دائمين. بل السياسة فنّ إدارة خلاف موقّت بين حليفين دائمين، وإدارة حلف موقّت بين خصمين دائمين.
لا يتقابل حقان ويقتتلان، فلا بدّ أن أحدهما حقّ فيه بعض باطل، والآخر باطل فيه بعض حقّ. وتلك هي الفتنة. وإلا فأحدهما القضية والآخر مشكلة، فلا تحمى القضية بتجاهل المشلكة ولا تحلّ المشكلة بالتخلّي عن القضية. هنا عبقرية الحياة والسياسة والقيادة.