«ظلّ الأفعى»… حكاية الأنثى

«ظلّ الأفعى»، روايةٌ كتبها الروائيّ المصريّ وخبير المخطوطات، يوسف زيدان، عام 2006، وصادرة عن «دار الشروق».

تدور أحداث الرواية حول شخصٍ، اسمه «عبده»، يحاول استرضاء زوجته، الملقّبة بـ«نواعم»، بعدما تمرّدت عليه وأبغضته بلا سببٍ واضحٍ. فيستعين بجدّها الباشا لإعادتها إلى صوابها. يتبيّن، في ما بعد، أن الزوجة كانت تتلقّى رسائل بالبريد من أمّها التي كانت قد هجرتها، قسراً، منذ صغرها بعد وفاة والدها.

وزمن القصّة يدور في يومٍ واحدٍ ألا وهو الثلاثين من حزيران عام 2020. أمّا أحداث الرواية، فتجري في منزل الزوجين المليء بالأسرار.

الهدف من الرواية، بيان أهمية الأنثى تاريخياً، وانتقالها من منزلة التقديس في الحضارات القديمة وتأليهها، إلى منزلة التدنيس في الوقت الحالي ومعاملتها معاملةً دونيّةً في ظلّ مجتمعنا الذكوريّ. ويتم ذلك من خلال الرسائل التي كانت ترسلها الأمّ إلى ابنتها والتي تتمحور مواضيعها حول الأنثى.

تحوّلات الأنوثة من المقدّس إلى المدنّس

أفصح يوسف زيدان عن ماهية تحوّلات الأنوثة من التقديس إلى التدنيس عبر إيجاز المراحل التاريخية التي مرّت بها الشعوب والحضارات، بدءاً من تبجيل الأنثى وتأليهها وصولاً إلى تقديس الرجل وبالتالي تدنيسها.

ولكي يتوضّح لنا هذا الانتقال، لا بد من الإجابة أولاً على اشكاليةٍ بردّ جاء على لسان أستاذةٍ باحثةٍ في الآثار ومتخصّصةٍ بعلم الحضارات، بحسب الرواية:

«هل تبدّدت دواعي تقديس الأنثى، أم انطمرت؟».

دواعي تقديس الأنثى وتأليهها قسمان: الأول منهما مرتبطٌ بطبيعة الأنوثة وجوهرها. والقسم الثاني مرتبطٌ بذلك الوعي الفطريّ القديم الذي لم يكن قد وقع، بعد، فريسةً في شباك المتلاعبين بالعقول.

فأما ما يرتبط بطبيعة الأنثى، فمظاهره كثيرةٌ، منها: الحيض، الولادة، الاستدارة والتعهّد.

وانعكاس هذه المظاهر في الوعي الفطري للإنسان كان على الشكل الآتي:

منذ فجر وعي الإنسان ذاتَه والعالم، ارتبطت فكرة وجوده الحيّ بالدم. «فالدم سرّ الحياة». والأنثى، باعتقاد الإنسان الأول، كانت تملك سرّ الحياة، لأن هذا السائل الأحمر نفسه يفيض فيها كلّ شهرٍ، ولا ينقطع حيضها إلا خلال شهور الحمل أي فترة الاستدارة الكبرى لها التي تنبئ باللحظة الأشد رهبةً، لحظة الولادة.

فنظر إلى الأنثى باعتبارها «الكائن الغامض السحريّ»، من حيث ارتباطها بهذا الفعل المقدّس، الممتلك أسرار الحياة والوجود الدائمة من ناحيةٍ، والمفعّل شهوة الرجل الجنسية الموقتة من ناحيةٍ أخرى. من هنا، أدرك الرجل دوره الثانوي في إتمام دائرة الوجود، لحظة إطفائه الشبق، وأدركت الإنسانية دور الأنثى الأصلي. «فالعبادة للربة، والقداسة للمرأة، والتبجيل للنساء».

وكما جاء في الكتاب حرفياً، «القداسة فعل الجماعة، لا الأفراد. فلا يوجد مقدّسٌ في ذاته! لا يوجد مقدّسٌ إلا في مجتمعٍ». يشكّل الاحترام والتبجيل جوهرها، ولا تعني الإيمان الذي يقوم على الغيب والعقل عقالٌ له! ومع مرور الزمن، تحولت القداسة من تأمليةٍ إلى بديهيةٍ موروثةٍ.

لكن الإنسانية خلطت بين القداسة والدين، «ورفعت المقدّس إلى مرتبة الإيمان، فألغت حكم العقل فيه». بخاصة بعدما انهارت مصر القديمة، واجتاح العالم القديم الفكر اليهودي، بحيث وصف اليهود مكانهم الموهوم بأنه: قدس الأقداس! وربطوا بينه وبين الرجل الكاهن، بقولهم: «الكاهن الأعظم يخلع رداءه قبل أن يدخل قدس الأقداس». مع العلم أن الإنسانية لم تعرف قبل عشرات الألوف من السنين إلا الكاهنات.

من هنا، سارت الإنسانية في عكس الطريق الذي كانت سائرةً فيه فبعدما كان الوعي الإنساني ينتقل من الأعلى الربة / الآلهة إلى الأدنى الأنثى / المقدّسة / المرأة على نحوٍ تأمليّ عقلاني، لزمنٍ امتدّ ما بين ثلاثين وخمسين ألف سنة، انتقل إلى الطريق المعاكس، من الأرضي الأدنى الرجل / السيد إلى السماويّ الأعلى الربّ / الإله ، نتجت عن هذا الانتقال فكرة أن الملك ابن الإله، وأن الله خلق آدم لا حواء على صورته ومثاله! «في حين دلّت الاكتشافات الأثرية، على أن أولى مظاهر الدين كانت مرتبطةً بإعلاء الأنوثة، وكانت أولى الآثار الباقية من عصور الإنسانية الأولى، أي رسوم الكهوف، عبارةً عن صورٍ بدائيةٍ للأشياء تتحلّق بصورة امرأةٍ حبلى! وكانت أولى التماثيل عبارةً عن دمى لامرأةٍ حبلى! وكانت أولى أشكال الديانة في الحضارات القديمة، كافةً، تقوم على عبادة الربّة والألوهة المؤنّثة…

خلال السنوات الثلاثة آلاف الأخيرة، صار الوعي الإنساني، المتأخر زمناً، ينظر إلى دواعي القداسة في المرأة، على أنها علامات الدنس! مع العلم أن تلك الدواعي لا تزال على حالها فالمرأة لا تزال تحيض، وتستدير أعضاؤها، وتلد، وتتعهد.

هذا التحوّل التدريجيّ البطيء، «بدأ باندثار الروح الأنثوي للحضارة المصرية القديمة، وتجلّى في صوغ الأدبيات السومرية المتأخرة والمدونات التوراتية المبكرة، واكتمل مع الاجتهادات المصاحبة للانتقال التدريجي للسلطة. وكلها تحولاتٌ، ظهر معها الزعم بأن الإله الذكر أزاح الربّة، وبأن الله رجل خلق آدم على صورته ثم استلّ حواء من ضلعه الأعوج، وبأن رمز الأنوثة هو حواء المستلة المتحالفة مع الشيطان لإخراج الرجل من الجنة، حواء الناقصة والمدنسة كل شهرٍ بدم الحيض، حواء التي تبجحوا فزعموا أن الله أرادها وعاءً للبذرة التي يلقيها الرجل بباطنها، حواء التي خلقت لإطفاء شهوة الرجل ما لم يعف ويتنسك ويكون من الربانيين، حواء التي لا مكان لها في الحضرة الإلهية إلا على سبيل الاستثناء والندرة والتجلي الأنثوي في صورةٍ ذكوريةٍ، حواء التي لا تكف في زعمهم عن ملء العالم فتنةً واضطراباً وتشويشاً لعقل الرجل… حواء المدنسة أبداً!

وهكذا، انطمرت قداسة الأنثى، بالدناسة التي ألحقتها بها خاتمة تحوّلات السنوات الألفين الأخيرة».

الحرب والعسكرية

«فجر العسكرية ارتبط بالأنثى المقدّسة والأمّ الأولى. وجيوش الحضارات القديمة، كانت في بدء زمن السيادة الذكورية، تنطلق تحت راية الربّات، لا الآلهة الذكور!».

هذه العبارة التي أوردها زيدان في صفحات كتابه، قد تلخّص تحوّل السيادة، بمفهومها العسكري، من الأنثوية إلى الذكورية.

فالجيوش الأولى لمصر القديمة حاربت تحت راية الإلهة «سخمت» المتّخذة صورة اللبؤة. والجيوش البابلية حاربت تحت راية الإلهة «عشتار». والربّة «أثينا» ذات الدروع، كانت إلهة الحكمة والحرب عند اليونانيين.

«والجيوش النظامية، برزت في تراث الإنسانية على أنقاض السلام الأنثويّ»، بدءاً من اتّساع رقعة الأرض المزروعة وبالتالي اتّساع الأسر، فبروز مفهوم الحيازة. لكن، ما لبث أن تغيّرت هذه الحال مع زمن السيادة الذكورية، بدءاً من الحيازة الواسعة، فالأسرة الممتدة، فالجيش النظامي بحيث تم الانتقال التدريجيّ من اكتشاف الزراعة، إلى الاستيطان، إلى الحيازة الزراعية الواسعة فتراكمت الثروة… ومن الإتاحة الجنسية، إلى الأسرة النواة، إلى العائلة الممتدة ونظام القرابة فتأكدت هرمية السلطة… ومن الحماية والدفاع، إلى المبادرة لدرء الخطر، إلى استدامة الجيوش الغازية وإعلاء العسكرية بِاسم حماية أمن الجماعة وثرواتها.

وبهذه الجدلية الثلاثية، انتقلت الإنسانية من روح الحضارة الأنثوية إلى أزمة السيادة الذكورية… انتقلت من الولادة إلى الإبادة!

ومع هذا التفاعل التطوريّ بين الجوانب الثلاثة المشيدة للسلطة، انتقل عمل خوض المعارك من الدفاع عن الأرض والعرض تحت راية الربّة، إلى الحرب التوسعية التي تخدم الملكية الذكورية وتؤكد حيازة الرجل وهرمية السلطة… فسادت الحروب.

نقدّم على سبيل المثال، حضارة سومر القديمة المجيدة، التي بدأ فجرها بعبادة الأمّ المقدّسة «ننخرساج»، والتي انتهت نهايةً رخيصةً بعدما وضعت قياد المجتمع بيد الرجال. وهو ما ذكرته اليهودية، من بعد، في «سفر التكوين ـ التوراة»، بالعهد القديم، عهد الإله يهوه / إلوهيم / الربّ للقَتَلة والفَجَرة وسفّاكي الدماء.

«كانت المرأة في الزمن السومري الأول، مبجّلةً في المجتمع باعتبارها الأصل. وكانت المرأة آنذاك هي مصدر القيمة، وعماد الأسرة، وروح الجماعة… ولقرابة ألفي سنة من حياة سومر، كانت المرأة تتزوّج بأكثر من رجلٍ، وتتحكّم في أكثر الأشياء. حتى أصدر الملك السومري أوروكاجينا عام 2355 قبل الميلاد، شرائعه التي تحرّم على المرأة الزواج بأكثر من رجلٍ واحدٍ، وإلا ترجم بالحجارة، في حين أن لا عقوبة تقع على الزوج الأول ولا الثاني. ليمهّد بذلك، لتلك الشرائع الآسيوية التي أباحت للرجل، أن يتزوّج بأكثر من امرأةٍ!».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى