ماذا بقي من الاستقلال…؟
عبدالله خالد
قبل عام 1920 لم يكن هناك وجود لكيان سياسي دستوري في المنطقة اسمه لبنان أو سورية او الأردن أو فلسطين أو العراق. الاسم السائد وقتها كان بلاد الشام وأرض الرافدين. وكانت تلك البلاد نتيجة لموقعها الجيو – استراتيجي عرضة لغزوات متكرّرة طمعاً في ثرواتها ورغبة في الهيمنة عليها باعتبارها عقدة مواصلات وصلة تواصل بين الشعوب.
كان الشعب السوري يسكن تلك البلاد وهو نتاج تمازج واختلاط بين شعوب تفاعلت مع بعضها لتكوّن حضارة شعّت على العالم وأسهم في وضع أسسها سرجون وحمورابي، وتابع مسيرتها من خلفهما لتتوّج بعد ذلك بحضارة عربية مسيحية – إسلامية لا تعرف التعصّب، تعترف بالآخر وتسعى لأن تبني معه حضارة إنسانية.
وحدهم اليهود الصهاينة رفضوا الاندماج والتفاعل انطلاقاً من كذبة لفّقوها مفادها أنهم «شعب الله المختار» متجاهلين أنهم سرقوا حضارتنا وتراثنا ونسبوهما لأنفسهم من دون أن يرفّ لهم جفن.
أما الاستقلال الذي نحتفل بذكراه الـ 73 اليوم فقد بقي شكلياً يخضع لنفوذ أجنبي علني أو مستتر. لنتذكر أنه في معركة مرج دابق التي وقعت بين المماليك والعثمانيين وقف فخر الدين الأول على تلة مرتفعة يراقب سير المعركة. وحين كُتب النصر للسلطان سليم على قانصوه الغوري أعلن ولاءه للمنتصر الذي أقطعه مهمة جباية الضرائب على منطقة امتدّت مع الوقت من اللاذقية إلى عكا. وتكرّر الأمر مع الأوروبيين في مرحلة ضعف العثمانيين وإعطائهم الامتيازات لأكثر من دولة أوروبية هيمنت على المنطقة وثرواتها من خلال ما سُمّي حكم القناصل.
ومع سايكس – بيكو ووعد بلفور وتقسيم التركة العثمانية ونشوء نظام الانتداب الذي حصر السلطة بيد المندوب السامي، رضخ اللبنانيون لهذا الوضع وأصبح قرارهم بيد المستعمر الجديد الذي رأى أنّ مصلحته تتطلب ليس استمرار تقسيم البلاد فقط بل زرع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد على أساس طائفي – مذهبي عنصري وتنمية المصالح القطرية والذاتية.
وساهم الغزو الصهيوني في تنمية ثقافة الانعزال وأصبح البعض يطالب بـ «وطن قومي مسيحي» في لبنان على غرار «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين.
في ظلّ تلك الأجواء حصل لبنان على استقلاله بعد أن ترسّخت في عقول أبنائه ثقافة حكم القناصل. وهكذا هيمنت على الحكم طبقة سياسية فاسدة تستند إلى نظام طائفي هدفه تقاسم الحصص بين الطوائف بنسب متفاوتة. وحصل انقسام عمودي في البلاد يقوم على خوف الحكام من فقدان امتيازاتهم وشعورهم بأنّ ارتباطهم بالأجنبي هو الذي يوفر لهم الحماية، وبالتالي استمرار الهيمنة. مقابل شعور الآخرين بالغبن وسعيهم لنيل حقوقهم وانتقالهم من مرحلة الرعايا إلى مرحلة المواطنة التي تسودها العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين اللبنانيين.
جاء اتفاق الطائف ليكرّس النظام الطائفي بعد أن أهملت كلّ البنود الإصلاحية التي تضمّنته. وترافق هذا مع انتشار الفساد وتنامي المعضلات الاقتصادية والاجتماعية وإهمال التركيز على ضرورة تنشيط المشاريع الاقتصادية المنتجة التي تحمي الفقراء وذوي الدخل المحدود وتؤمّن لهم الحدّ الأدنى من الحياة الحرة الكريمة.
في ظلّ هذا الوضع من الطبيعي أن تتكاثر الأزمات، وأن تتضخّم الشكوى، وأن تعمّ البطالة، وأن تتلاشى التقديمات الاجتماعية، وأن تتزايد إمكانية وقوع الفقراء في شباك مشاريع ظلامية – إرهابية تهدّد أمن البلاد ووجودها واستقرارها.
وإذا كنا نحتفل اليوم وفي طرابلس بالذات بذكرى الاستقلال، فإنّ هذا يأتي في إطار الالتزام بثوابتنا الوطنية والقومية التي لم نتخلّ عنها يوماً ودفعنا ثمن تمسكنا بها إهمالاً وحرماناً وحصاراً أبقانا في مرتبة الرعايا من دون أن نرتقي إلى مستوى المواطنة بفضل قرار سياسي يعرقل مسألة تحقيق الإنماء المتوازن وإقرار العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص بين العاصمة والأطراف.
كلّ ذلك، لأنّ طرابلس شامية النسب، مصرية الهوى، عربية الانتماء، متدينة من دون تعصّب، بالإضافة إلى كونها مدينة العلم والعلماء.
بهذه الخلفية نلتقي اليوم تحت عنوان ماذا بقي من الاستقلال لنجري مراجعة تكشف الثغرات وتركز على الإيجابيات إنْ وجدت وصولاً إلى مستقبل أفضل.
في ذكرى الاستقلال وفي ظلّ الانقسام العمودي بين راغب في استمرار الوضع المأساوي الذي نعيشه حفاظاً على مصالحه وراغب في إحداث تغيير جذري، علينا أن نسعى للاستفادة من المرحلة الجديدة التي بدأت مع إنهاء الفراغ الرئاسي ووصول الرئيس ميشال عون الذي ضمّن خطاب القسم مؤشرات توحي بإمكانية تنفيذ التغيير والإصلاح ولو في الحدود الدنيا رغم العقبات الكثيرة التي يمكن أن تعترضه.
إنّ حماية الاستقلال – بالمعنى الإيجابي أيّ اعتباره تنوّعاً يحمي الوحدة الوطنية ويعزّز ويغني التضامن القومي، وليس مجرد تعدّد يكرّس التجزئة، تشكل المواطنة الضمانة الحقيقية لبناء دولة مدنية ديمقراطية، مقاومة ترفض النظام الطائفي المذهبي العنصري، وتشدّد على المواطنة كهوية جامعة وتشجب التبعية العمياء التي كرّسها حكم القناصل، ولا تعترف بالمحاصصة بين أطراف الشبكة الحاكمة على حساب الكفاءة والعدالة.
كما أنه لم يعُد مقبولاً في الألفية الثالثة استمرار إهمال معالجة الملف الاقتصادي الاجتماعي وعدم الفصل بين النضال الوطني القومي والنضال الاجتماعي. ولا بدّ من التشديد على تشجيع الاقتصاد المنتج الذي يقدّم قيمة مضافة للمجتمع ويُعطي الكادحين بعض حقوقهم ويمنع استغلالهم.
ويبقى السؤال المركزي… أليس من حقنا أن نسأل ماذا بقي من الاستقلال إذا كانت مقوّمات الحياة الأساسية من ماء وكهرباء وبيئة نظيفة ومرافق عامة يعشش فيها الفساد وبنية تحتية مهترئة وطرقات مليئة بالحفر وطبقة سياسية يتحكّم بقرارها حكم القناصل؟
بهذه الخلفية أعتقد جازماً أنّ الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل تبدأ بإقرار نظام انتخابي حديث يعتمد النسبية على أن يكون لبنان دائرة انتخابية واحدة وخارج القيد الطائفي…