إضاءة
زنوبيا
إنّ فعل التفلسف نقدٌ فخلق، فلا اكتفاء بالنقد، ولا تجاوز للطبيعة التراكمية للفكر البشري. أمام تعريف مقتضب كهذا، على سبيل المثال لا الحصر، تثير شخصية المثقّف العربي قضية هامة: أين هو من الخلق؟
في هذا المجال، لن نتحدّث عن إيديولوجية، بل عن نظام معرفي، أي عن النظام المخوّل تلقّي هذه الإيديولوجية أو تلك، فإنّ عقلية توحيدية مثلاً، قد يكون بإمكانها المجادلة في فكرٍ توحيدي آخر، غير أنّ الحديث عن دين متعدّد الآلهة لا يقع في نطاق بنيتها المعرفية، ولا طاقة لها على الخوض في غمارها.
لقد ورث المثقّف الأفكار لا الأسئلة، ورث طرقاً ليكون سعيداً، ومفكّراً، لا سؤالاً عن السعادة، ولا عن منهج التفكير، بمعنى آخر، لم يرث هدفاً سمّاه ناصيف نصّار بالاستقلال الفلسفي.
وإذا أوغلنا عميقاً في ما طرحه نقّاد العقل العربي أمثال الجابري، ونصر حامد أبو زيد،، وغيرهما، لوجدنا أنّ مكمن العائق المعرفي يكون في الدين تارةً، أو في عقلية عربية مُحكَمة الإغلاق لم تجد، ولن تجد طالما هي مستمرّة في عقائدها، سبيلها إلى التحرّر.
إنّ عقليةً محورها الله، أقول عقلية لا وجداناً، لا سبيل لها إلى الإبداع، لأن لا مبدِع عندهُ إلّا الله، وهو في مسيرة فكره، لا يفعل سوى العمل على إعادة كشف ما كشفهُ الإله في خلقه وعباده وكلمته. هذا التحجيم للعقل البشري، هذا السقف الماقبلي للقدرة، هذا الحكم المسبقُ باللاقدرة، كفيلٌ بإثباط عزيمة الفكر وإحلال نزعته البيانية محلّ تلك الإبداعية. إنّ العقل العربي غير قابلٍ لإيجاد مقدّماته العقلية، لقد استقى المنطق اليوناني الذي لا شكّ في أنّه أحدث قفزةً عميقة في الفكر العربي، غير أنّه لم يستطع تجاوز مسلّماته: وجود الله، والنبوّة، والخلق، والوحي، وغيرها.. إنّ نتيجة عملية التفلسف العربية محدّدة سلفاً، أمّا مخالفتها فإخلال بقواعد المنطِقِ أو بصيرةٌ عمياء.
لقد انبهر مثقّفونا بالغرب، أو انغلقوا على التراث، أو عملوا على إقامة شيءٍ من التوازن لا يخفى على مراقبه ضعفه أو تناقضه، لكنّنا في الحالتين لم نستقلّ عن ماضٍ متخمٍ بعناصرهِ القيمية والفكرية المتلائمة معه، ولا عن جديد لشدّة تفوّقه علينا غدا ديناً. أجل، العلمانية والحداثة دينٌ أيضاً، ولن نغوص هنا في المقوّمات الكفيلة بتسمية هذا التيار أو ذاك ديناً. لهذا السبب، غاب تيار الخلق عن الفكر العربي، لأنّه صُمّم مخلوقاً، مخلوق الأفكار والمسار.
ولعلّ كلّ هذا الكلام ليس بجديد، فتراثنا الحديث، مليءٌ بكلّ عناصر النقد، غير أنّه يفتقر، بصورةٍ دقيقة، إلى السؤال عن الكيف، أو الإجابة عنه.
كيف؟ كيف سنفكّك سوياً عناصر العقل العربي لنعيد ترتيبها بما يحقّق تقّدّمه وخلقه؟ كيف سنُعيد تربيته ليدرك إدراكاً واعياً أنّ تركيبة مجتمعه ليست تلك التي كانت في الجاهلية، ولا في صدر الإسلام، ولا تلك التي تأخذ بالنموّ بجنون اليوم في الغرب، أعني الحداثة الغربية؟ كيف سنخطو خطوةً صوب تنشئة «جيل الثورة» الذي قد يقود غداً، أو إلى غدٍ نهضوي بامتياز؟
لربّما، وسط هذا الكمّ الكبير من الأفكار، والغياب الكبير للسعي العملي إلى تحقيقها، في غياب المقوّمات المادية وغيرها، لا سبيل لنا إلى التغيير إلّا في خطّةٍ تربوية منظّمة تصوغ شخصية مفكّرة علمانية، لا مؤدلجة، قادرة على الإحاطة بمختلف المستويات المفاهيمية، وعلى إقامة التوازن، والفصل، بين العقل والإيمان، ليتكوّن الوجدان النهضوي الكفيل بإحداث الفعل الفلسفي، لا فعل التفلسف فحسب. إنّ التغيير لا يكون بالعمل السياسي، في وضعٍ عقيمٍ كهذا ففي السياسة، تتعامل مع جيلٍ أمضى عمراً في أفكاره إلى أن كوّنت قالبه العقلي وغدا يفكّر من خلالها أمّا في التربية، فإنّك أمام حقلٍ خصبٍ ومرنٍ، تزرعه بما يرضي الغد. الهدف اليوم: أمّن للتاريخ عناصر التغيير، ليأخذ مجراه.