«ظلّ الأفعى»… حكاية الأنثى 2/2
ريتا التنوري
وصلنا في الحلقة الماضية من هذه القراءة التحليلية لرواية يوسف زيدان «ظلّ الأفعى»، إلى الزمن السومري الأول، حيث كانت المرأة مبجّلةً في المجتمع باعتبارها الأصل.
وقد عثر الآثاريون على لوحةٍ سومريةٍ، رسم فيها، قبل تدوين التوراة بألف سنة، شيطان وشجرة وامرأة تقدّم لرجُلها ثمرةً من الشجرة! القصة التي بدأت منها التوراة مسيرة تدنيس الأنثى وإعلاء الرجل والإله الذكر.
في هذا السياق، حاول المصريون تصحيح مسار اليهودية عن طريق المسيحية، وردّها إلى المفهوم الأصلي للربوبية، أي مفهوم الأنثى الخالقة من غير ذكر، مفهوم الربّة «إيزيس / مريم». لكن ما لبثت أن انقلبت المسيحية على ذاتها، فجاءت الفرصة ضائعةً. وأبرز دليلٍ على ذلك، تواري العذراء / الوالدة وبروز الذكر / المولود ، فتسيّد المسيح على حساب الحضور المريمي، مثلما تسيّد «حورس» على حساب الحضور «الإيزيسي».
«ثمّ استتبّ أمر المسيحية في الفاتيكان على نقيض ما ابتدأت به مصر! فمن الرهبانية والتقشّف والشهادة، إلى الفخامة والتذهيب والسيادة… صارت المسيحية ملكوتاً في الأرض، بدلاً من ملكوت السماء الذي دعت أولاً إليه. وصار رأسها هو البابا مع أنها كانت ديانةً حقيقيةً، بدأت أول الأمر بحقيقة الألوهة: الماما.
آلافاً ثلاث تشكلت خلالها هذه البنية الاحتقارية»!
وبحكم انتماء المجتمع إلى البنية الاحتقارية، فعلى المرأة أن تبجّل الرجل: أباً، وأخاً، وزوجاً. وعلى الرجل احتقار المرأة ليخفّف بذلك من شعوره باحتقار الذات، واحتقار من هُم فوقه، له. والمؤسف أن هذا الأمر مدعومٌ ببعضٍ من عاداتٍ شائعةٍ وتقاليد موروثةٍ ونصوصٍ دينيةٍ لها طابع الإلزام والقسر.
رووا في الحديث الشريف: «إذا صامت المرأة وصلّت وأطاعت زوجها، دخلت الجنة»! وخلا الحديث الشريف من أيّ وصفٍ للزوج، بحيث يبرّر طاعته، كأن يكون طيباً أو صالحاً أو غير ذلك من المبرّرات.
«فيصير جماع الأمر: أن مطلق المرأة، عليها طاعة مطلق الرجل والخضوع له… بلا تمييز»!
ووفقاً للعقلية العسكرية، فإن الخطر الأنثويّ المهدّد، يلزمه أن تظلّ المرأة دائماً تطالب ببعض الحقوق، فيمنحها الرجل شيئاً ويسلب منها أشياء. فتعود لتطالب مجدّداً بالمسلوب، فيمنحها ثانيةً شيئاً ويسلب منها مزيداً من الأشياء. وهذا كلّه بالقانون! القانون الذكوريّ الروح والذكوريّ التطبيق. «وذكوري هنا تعني نصف إنساني ، وللدقة: ناقص الإنسانية»!
وعلى هذا المنوال، تزحزحت الإنسانية عن الإنسانية.
رمزية الأفعى
وحدي، أنا، سأبقى
وأصير كما كنت قبلاً
أفعى، خفيّةً، عصيّةً عن الإفهام.
«ترنيمةٌ لإيزيس سجّلها المصريون القدماء، قبلما تتشوّه صورة الأفعى في الأذهان. كان ذلك في الزمن القديم، الذي اتّخذت فيه الربّة المقدّسة الأولى، رمزاً هو أقرب ما يكون إلى طبيعتها. كانت الأفعى رمز الربّات: «إنانا» و«عشتار» و«إيزيس» و«أرتميس»… وقد صارت الأفعى من بعدهنّ، شعاراً لآلهةٍ ذكوريةٍ مصطنعةٍ! لإله الحكمة المزعوم «هرمس» المثلّث العظمة، ولإله الطبّ عند اليونان «إسكليبيوس»، ولآلهةٍ كثيرةٍ غيرهما.
وكانت الأفعى دوماً، شعار كل الملكات العظيمات في الأزمنة الأولى: «سميراميس»، «حتشبسوت»، «نفرتيتي»، «كليوبترا»… وغيرهنّ من ملكات الأزمنة الأولى التي كانت الإنسانية خلالها، لا ترى بأساً في تحكّم النساء، بل ترى أنه من الطبيعيّ أن تحكم النساء، وأن يتّخذن من الأفعى شعاراً… كنّ حاكماتٍ وقاضياتٍ في معظم الحضارات القديمة، حتى انقضى النصف الأوّل من حضارة مصر، ومن حياة سومر… ثم تغيّر الحال، فجاءت اليهودية لتحرّم على المرأة أن تكون حاكمةً أو قاضيةً، بعدما دنّس كَتَبة التوراة، بضربةٍ واحدةٍ، المرأة والأفعى».
ويبقى التساؤل: لماذا اتّخذن الأفعى شعاراً؟
لا بدّ من تفريغ صورة الأفعى من كلّ أحكامنا الوهمية الموروثة في أذهاننا، حتى تصبح مجرّدةً بعيداً عن الخرافات والاعتقادات.
الأفاعي بطبيعتها لا تهاجم إلا من يعتدي عليها، أو يعبث بجحرها، أو يقترب من ذرّيتها. وفي هجومها هذا إنذارٌ، اذ تنتصب محذّرةً فإن لم يلقَ إنذارها صدىً عند المهاجم، نهشته خاطفةً وهربت. إذاً، الأفعى كائنٌ مسالمٌ في الأساس.
الزحف مشيها. وقد تبنّت الجيوش هذه المفردة لتعبّر عن تنقلاتها. فيقال: زحف الجيش. وإن تقهقر الجيش، يقال: انسحب. فالانسحاب أيضاً شكلٌ من أشكال حركة الأفعى. وهنا، نعني الجيوش النظامية الذكورية الرائجة في الأزمنة الأخيرة. فحضارات أولى كثيرة، مجيدة، التي عبد أهلها الربّة وقدّسوا الأفعى، عاشت في سلامٍ طويلٍ من دون جيوشٍ نظاميةٍ وولّدت كل بذور الحضارة: الزراعة، الثقافة، الاستقرار، الحنين إلى الوطن، الضمير… السلام!
«لم يجد الآثاريون أثراً لصناعةٍ حربيةٍ بين حفرياتهم، مثلما وجدوا في المجتمعات الذكورية اللاحقة.
كان أهل الأزمنة القديمة يبنون المعابد للأفعى. والعجيب أن أكبر عددٍ من هذه المعابد، اكتشف في أرض فلسطين التي شهدت كتابة أسفار العهد القديم، التوراة، أول كتابٍ طمس صورة الأفعى، وجعلها مرتبطةً بالشيطان وبالمرأة والشر! ففي مطلع القرن الماضي 1903 اكتشف في فلسطين، أكبر هيكلٍ مخصصٍ لتقديس الأفعى. وجد الآثاريون فيه آلاف الأفاعي المحنّطة، وتمثالاً برونزيا ضخماً لأفعى الكوبرا»!
لفظ «الحيّة» هو اللفظ الأشهر المرادف للأفعى، الذي اختاره كلّ من ترجموا التوراة إلى نسختها العربية. لغوياً، «الحيّة» مشتقّةٌ من «الحياة»، ومنها سمّيت أمّ البشر، بحسب اعتقادهم: «حوّاء».
«وللحيّة والحيا في العربية معانٍ، كلها خطيرةٌ ودالةٌ:
المعنى الأول، الألصق بالمرأة، هو أن الحيا فرج المرأة. وفي لسان العرب: الحيا فرج الناقة. والحيّ، فرج المرأة.
وحيّة وحواء وحيا، ألفاظٌ اقتربت أصولها ومعانيها…
والحيا أيضاً في اللغة: المطر والخصب. كلاهما حياة… كلاهما حواء… كلاهما الحيّة.
الحيّة عكس الميتة، الحيّة ضدّ الفناء، الحيّة مرادف للخلود والانبعاث وتجدّد البقاء.
الحيّة لحظة الميلاد التي تتحقّق بها أنوثة الأنثى، على نحوٍ لا مثيل له. والحيّة، هي روح الوحي الأنثوي الساري في النساء، خافتاً كالفحيح، منذ فجر الوجود إلى يوم منتهاه.
وللحيّة معانٍ مستترة عن أعين الناس، وشت بها اللغة، وتناساها الناس. فمن مستتر معانيها، ما يأتي في متون اللغة عند الإبانة عن لفظ «إله». وبحسب قول ابن منظور: إن الإلهة هي الحيّة العظيمة! وفي بيان مادة «لوه» يقول في كتابه المشهور «لسان العرب» ما نصّه: الإلهة هي الحيّة، واللات صنمٌ مشهورٌ يكتب بالتاء «اللات» وبالهاء «اللاه»، والأخير هو الأصح، أو أصله لاهة وهي الحيّة»!
ورغم ذلك، طمست معاني ودلالات الأفعى إلى أن أزيحت عن عرش القداسة وحُطّ من شأنها.
التشكيك حالةٌ طبيعيةٌ ومرحلةٌ لا بدّ منها عند الإنسان. فليعمّم التشكيك وليشمل الاعتقاد بأن وأد البنات كان عادةً لدى كلّ العرب، في الزمن المسمّى اعتباطاً بالجاهلية.
وردت في القرآن الآية الآتية: وإذا الموءودة سُئلت بأيّ ذنبٍ قُتلت». الفعلان المستخدمان بصيغة المجهول، ينفيان عنها الفعل بالكلّية!
والأهمّ لنا في هذا السياق، أنه لم يصل إلينا خبرٌ تاريخيّ موثوقٌ به في شأن وأد البنات.
«ولو كان وأد البنات قد جرى حقاً، كعادةٍ جاهليةٍ منتشرةٍ بين العرب قبل الإسلام، فكيف تناسل هؤلاء الجاهليون جيلاً بعد جيلٍ؟ وكيف تسنّى للرجل آنذاك، الزواج بأكثر من امرأةٍ؟ وكيف حملت القبائل العربية الكبرى، أسماءً دالّةً على الانتساب للأنثى، مثل كندة وثعلبة وساعدة وبني أمية؟ وكيف اشتهرت نساءٌ ذات مكانةٍ من كلا الفريقين، مثل السيدة خديجة بنت خويلد الغنية الموقرة التي رعت الإسلام في مهده، ومثل السيدة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب بن أمية، أم معاوية أول ملوك الإسلام، آكلة كبد حمزة عم النبي… هل يستقيم ذلك؟ وهل كانت النساء ذوات المكانة، سيسمحن بوأد بنات جنسهن؟ وهل كانت دعوة الإسلام، ستعارض عقب وفاة النبي بدعوة امرأةٍ أرادت أن تردّ الأمر إلى الأنثى، أي سجاح التي نعرفها بلقب المتنبية!
لقد عبد العرب الأنثى قبل الإسلام، عبدوا اللات والعزى ومناة، الإلهات اللواتي ورد ذكرهن في سورة النجم».
هذا المسار التاريخي الحضاري الذي اتّخذته النصوص الأسطورية والمقدّسة، قد جسّده يوسف زيدان بشفافيةٍ وبساطةٍ وأمانةٍ، في عملٍ روائيّ لم تسلّط عليه الأضواء وأعين القراء والباحثين. هذا النبذ وهذا التهميش، هل افتُعلا عن قصدٍ، أو عن لامبالاةٍ، أو عن خوفٍ؟