مهرجان فاغنر السنوي في بايروت يواجه فشلاً وعثرات
لم يتوقف الجدال يومًا حول نزق الموسيقي الرومانسي الكبير ريشارد فاغنر وقوميته وأنانيته، لكن الجدال لم يمس يومًا اقتناع خبراء الموسيقى بعبقرية الرجل وفضله على الأوبرا الكونسرتية.
يقول رينيه كولو، مغني التينور السابق في مهرجانات فاغنر، إنه قرأ السلام على مهرجان فاغنر في بايرويت. وجاء هذا الحكم القاسي بعدما شهدت دار الأوبرا، في ختام عرض رباعية الخاتم لفاغنر، أكبر كونسرت صفير استهجان في 140 عامًا، إذ انطلق معظم الحضور بصيحات الـ»بوووو» بحضور المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تخلفت للمرة الأولى عن حضور حفل الافتتاح. وعبر بعض الحضور عن تشاؤمهم منذ البداية عندما تأخر عرض الافتتاح ساعة بسبب خلل فني، فهذا لم يحدث طوال السنوات الـ14 الماضية. وزاد من تشاؤمهم رؤية الشخصيات السياسية التي ملأت مقاعد الأوبرا هذا العام بدلاً من جمهور الموسيقى الحقيقي والنقاد.
وأمر طبيعي أن يحذِّر البعض، منذ يوم الافتتاح، من نذير شؤم هذا العام بعدما ضعف الاقبال على شراء بطاقات الدخول التي كانت تنفذ قبل أشهر في المهرجانات السابقة. واضطرت إدارة المهرجان إلى بيع البطاقات بأسعار متهاودة على صفحات الإنترنت، ما اعتبره النقاد أول فضيحة رافقت مهرجان الموسيقيّ الكبير هذا العام. واعتبر الخبراء ضعف الإقبال وفراغ فنادق بايرويت هذه السنة وتخلف المستشارة عن حفل الافتتاح أدلة على فقدان المهرجان بريقه.
ليس هناك أفضل لتصوير حال الصخب التي عمت القاعة من الممثل والمغني لانس ريان، الذي شعر بالجزع عندما كان على المسرح بسبب موقف الجمهور. أضاف ريان انه لا يفهم هذا الغضب كله والرغبة في الانتقام، فكل ما كان المخرج فرانك كاستورف يريده هو إطلاق العنان لمخيلته، في إشارة واضحة إلى وجود حكم مسبق على الأعمال وعلى المخرج، شارك فيه الجمهور والنقاد على حد سواء.
لم ينبر أي ناقد، ولا أي صحيفة، للدفاع عن كاستورف، رغم مواقف بعض الصحف، خاصة صحيفة «دي فيلت» واسعة الانتشار التي عزت فشل الرباعية والمهرجان ككل وبشكل مهين إلى عقلية المخرج الشرقية وتعلقه بثقافة ألمانيا الديمقراطية الزائلة. مواقف نقدية اتهمت المخرج بإعدام كامل المهرجان، وليس رباعية «الخاتم» فحسب. ويمكن القول إن بعض الصحف انتقدت مخرج رباعية «الخاتم» كاستورف، مثل صحيفة «نورد بايرشن كورير»، لكنها استحسنت عرض لونيغرين للمخرج هانز نوينفلز، لمجرّد أنّ صيحات «برافو» كانت أعلى من صيحات الاستهجان. كما عبرت الصحيفة عن قناعتها بنجاح عرض «الهولندي الطائر» للمخرج يان فيليب غلوغز.
صبّ المحرر الثقافي تيلمان كراوزه في صحيفة «دي فيلت» جام غضبه على العقلية الاشتراكية الألمانية الشرقية التي أدت إلى كارثة بايرويت. واستخدم كراوزه مفردة «كاتاستروف» للتعبير عن الكارثة التي سببها كاستورف بسبب التقارب في المفردتين. واتهم كراوزه المخرج بالسعي بمختلف الوسائل المتاحة لإثارة اعجاب الجمهور، لكن وسائله كانت فشلاً للقيم الجمالية الشرقية، على عكس الذوق الأوروبي الكلاسيكي. وواصل محرر «دي فيلت» المحافظة هجومه قائلاً إن النجاح الوحيد الذي سجله المخرج هو التأكيد على تشابهه مع فاغنر لناحية النزق والتشبث بالأفكار الاشتراكية للقرن الثامن عشر «وما قدمه كاستورف على مسرح بايرويت لم يكن أكثر من خليط من أساليب التغريب والتفكيك والصدمة التي كانت تميز المخرجين الألمان الاشتراكيين السابقين، وليست أكثر من حنين إلى الثقافة البروليتارية الشرقية، فما فعله كاستورف، باسم تجديد العمل الأصلي، هو أنه فكك العمل على نحو تعسفي وقدم جسدًا يعزى لفاغنر، ولكن بعدما بتر العديد من أوصاله».
ما أثار غضب محرر «دي فيلت» الثقافي هو أن كاستورف، في معرض استخدامه أساليب التفكيك والصدمة، أدخل عناصر معاصرة في إخراجه أوبرا «خاتم الأبالسة»، التي تعنى بالأساطير وحكايات الجن والسحر القريبة من الأخوين غريم، اللذين عاصرا فاغنر وصادقاه. وكمثل، استخدم مشاهد تغريب تكشف الاستغلال الرأسمالي، معلقًا صور لينين وماركس وإنغلز في المسرح، واستخدم في أحد المشاهد بندقية كلاشنكوف، رابطًا حوادث القصة بما يحصل الآن في أوكرانيا. واستهجن الجمهور استخدام مشاهد إباحية وبالونات تمثل حيوانات مختلفة، ومشاهد من مدينة فرانكفورت الحديثة التي تعتبر رمز رأس المال في أوروبا.
لاحظ راديو صوت ألمانيا الحرّ «دويتشه فيلله» أن هتافات الاستهجان غطت على صيحات برافو خجولة أطلقها في القاعة بعض أنصار المخرج كاستورف. حالة لم تشهدها بايرويت قبلاً، فكانت «شفقًا للألهة»، وهي إشارة إلى أحد أعمال فاغنر المشهورة المعروفة بالاسم نفسه «غوترديمرونغ». واعتبرت الإذاعة فشل مهرجان فاغنر هذا العام «تاريخيًا»، وربما سيؤدي إلى توقفه، رغم أن لجنة المهرجان أعلنت عن أعمالها للمهرجان المقبل منذ الآن. واعتبرت صحيفة «متل بايرشه تسايتونغ» أن مهرجان بايرويت مهدّد بشفق آلهة، وحملت الإخراج المسؤولية. ووضعت الصحيفة علامات استفهام كبيرة حول قدرات المغنين والفنيين أيضًا، مشيرة إلى أن مخرج «رباعية الخاتم» لم يبدع شيئًا ولم يقدم جديداً.
معروف أن فاغنر ينتمي إلى جماعة الرومانسيين الألمان الأوائل الذين كانوا يدعون إلى تحرر ألمانيا من الإمبراطورية النمساوية. وكانت ذاتية و»أنا» الرومانسيان أداتهم الفنية والأدبية في إعلان العصيان على الثقافة السائدة آنذاك. إلا أن أفكار فاغنر القومية الثورية، وذاتيته ونزقه، تفوقت في القرن الثامن عشر على قومية جماعة «ألمانيا الفتاة»، كما عرف عنه موقفه المناهض لليهود، والذي استغلته الماكنة النازية في دعايتها، مثلما استخدمت أفكار نيتشه. وفي رأي المحرر الثقافي في دي فيلت: «كأس فاغنر المقدسة فقدت بريقها، وما عاد مهرجان فاغنر صوت اللين في الموسيقى الكلاسيكية».