باسل الخطيب في مدينة المليون شهيد لإخراج أضخم فيلم عن العلّامة بن باديس
آمنة بدر الدين الحلبي
حَلُمَ على امتداد مساحة الحياة، وتطلّع إلى السموّ ليفوح أريج عطائه في كلّ مكان مثل أنشودة المطر التي سرت في الكون، وما حمل معه من إرث ثقافيّ وحضاريّ امتدّ من فلسطين إلى الشام.
حين ننشد الحديث معه، تتسارع نبضات قلبه ليهمس من الأعماق انتماءه إلى بيت علّمه مبادئ جميلةً، وما تُرك في العمق قلب ينبض بسوريّته، معتزّاً بها، اعتزازه بفلسطين أرضه ومسقط رأسه والديه.
بلدٌ واحد، تاريخٌ واحد، مصيرٌ واحد، قدرٌ واحد، وما سرح بين أركان هذا البلد أو ذاك روح الأدب والشعر والموسيقى، ما أثّر على تشكيل شخصيته، وانصهارها في بوتقة الإبداع العربي العالمي، فاتّسعت الرؤية، وكبرت التجربة، التي سعى إليها، حين نشأ مع والده المعلّم الأول والشاعر الفلسطيني العريق يوسف الخطيب فأثرى حياته.
المخرج السوري ـ الفلسطيني باسل الخطيب حقّق نقلة نوعية في الدراما السورية بملاحمها الكبيرة والمتعدّدة، سواء على صعيد المسلسلات أو الأفلام الرائعة التي أخذتنا إلى الإبداع العالمي، وما سرح من فكره بخصوصية متفرّدة أخرجت الروائع والأعمال الدرامية المثيرة للجدل.
مخرجٌ ومبدعٌ ومثابرٌ، يضع بصمة سورية في الحلّ والترحال، ويناضل لتبقى فلسطين جوهر القضية، وسورية مهد الحضارات. لا يتردّد في إخراج أفلام عن شخصيات حملت لواء الفكر التنويري، وناضلت من أجل بناء جيلٍ حضاريّ مؤمن بالمقاومة ضدّ الاحتلال والاستعمار بأشكاله كافة.
المخرج باسل الخطيب، حمل عدسته وفكره وأدواته حين أعطيت له الفرصة ليواصل نجاحاته ويحقّق حلمه، وحطّ رحاله في الجزائر منذ كانون الثاني 2016 لإخراج المسلسل التلفزيوني الأول والفيلم السينمائي الضخم عن العلّامة الجزائري عبد الحميد بن باديس 1889 ـ 1940 من رجال الفكر والإصلاح في العالم العربي، ومن روّاد النهضة الإصلاحية في الجزائر.
تدور أحداث فيلم «ابن باديس» حول محطّات من حياة العلّامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومقاومته الاحتلال الفرنسي من خلال النهضة الفكرية والتعليمية، حين تفتّح ذهنه على معاناته من فرنسا، ومن الجهل والاستسلام للبدع، فكان الباعث الأقوى له، القلِق على بلاده، وما شرد في روحه اعتبره واجباً نضالياً يجب القيام به ضدّ مستعمر غاشم.
يتم تصوير الفيلم في مدن جزائرية كثيرة: قسنطينة، تلمسان، مستغانم، الجزائر، وشاركت فيه مجموعة من نجوم الجزائر أمثال: محمد طاهر الزواوي، سارة علام، سهيلة معلم، حسن كشاش، يوسف سحايري وآخرون. ومن المتوقع افتتاحه في نيسان 2017.
يبدأ مشهد الفيلم السينمائي بوفاة جد ابن باديس عام 1899، ويأخذ العمل في ما بعد مسارات متعدّدة. لكن القلب النابض بالحرّية ركّز على نضال ابن باديس ضدّ المستعمر الفرنسي، والمؤامرات التي تعرّض لها من طرف البوليس السرّي، وما حقّق في محطّات سفره إلى تونس واكتشافه عوالم الفكر الجديدة، بأسلوب دراميّ شيّق يشدّ العين والروح، ليبقى ساكناً مستوطناً أعماقَ المتلقّي بمفرداته الفنية وأبجدياته الإخراجية،
هو ذاك باسل الخطيب ابن سورية العظيمة، وأهم ركائز صانعي الدراما فيها.
لم يغفل المخرج عن ولادة العلّامة عبد الحميد بن باديس ومسقط رأسه مدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري، عام 1889 حيث كان الابن الأكبر لوالديه، فأمّه زهيرة من أسرة مشهورة في قسنطينة، أما والده فكان مندوباً مالياً وعضواً في المجلس الأعلى ومستشاراً بلدياً في مدينة قسنطينة. توسّم في ولده عبد الحميد النباهة، ووجّهه توجيهاً يتلاءم مع فطرته ومع تطلّعات عائلته.
تناول الفيلم ظروف الحياة المحيطة بالعلّامة ابن باديس على مدى أربعة عقود، منذ أن بدأ نضاله ضدّ المستعمر الفرنسيّ حين كان في الثامنة من عمره. والبيئة العلمية صقلت شخصيته وهذّبت مناحيه، ودفعته إلى البحث والنضال، ويعود الفضل الأكبر لرحلته إلى تونس عام 1908 وسفره، ولقائه المفكرين والإصلاحيين، وسفره إلى الشام ومصر ولقائه بشخصيات كبيرة، ما شجّعه وأمضى عزيمته.
بما أن المخرج باسل الخطيب ضدّ الظلم والقمع والطغيان، جسّد شخصية ابن باديس البارزة أجمل تجسيد، كونه من بيئة ثرية ذات وجاهة، وما خفي بين جنبات روحه لهو دليل على إحساسه الكبير تجاه الظلم والظالمين، فاختار طريق الإصلاح الفكريّ والمقاومة.
بعد عودة ابن باديس إلى الجزائر عام 1913، استقرّ في مدينة قسنطينة، وشرع في العمل التربوي، وبدأ بدروس للصغار ثمّ للكبار، لكنه لم يكتفِ بذلك، فاتجه إلى الصحافة، وأصدر جريدة «المنتقد» عام 1925، وكان شعارها «الحقّ فوق كلّ أحد والوطن قبل كلّ شيء»، ثم أُوقفت بعد العدد الثامن عشر، فأصدر جريدة «الشهاب» الأسبوعية التي بثّ فيها آراءه، واستمرّت كجريدة حتى عام 1929، ثمّ تلتها مجموعة من الجرائد تحثّ على النضال ضدّ المستعمر الفرنسيّ.
سعى جاهداً إلى توعية النشء وتوسيع مداركهم، وحثّهم على النضال والمقاومة، حيث أشار كاتب النصّ رباح ظريف إلى أن ابن باديس تمكّن من التحايل على الاستعمار لأكثر من خمس وعشرين سنة، فكان مهادناً في العلن ومناضلاً في الخفاء، ببناء جيل يواجه فرنسا.
واعتمد كاتب النصّ على أكثر من 150 مرجع تاريخيّ حول ابن باديس. لكن ما يثير الغرابة، أنّ الجهة المنتجة حصلت على أرشيف البوليس الفرنسي الخاص بتقارير التحرّكات اليومية لبطل الفيلم، بينما لم يتم العثور على أيّ وثيقة فرنسية عن قضية محاولة اغتيال ابن باديس.
سار العمل في سياق محطّات درامية من حياة ابن باديس الذي كان يحمل فكراً منفتحاً تنويرياً مداوماً على حضور عروض المسرح والحفلات الموسيقية حتى أسّس فريق «مولودية قسنطينة» لكرة القدم.
وينتهي العمل بمشهد ملحميّ جنائزيّ للعلّامة عبد الحميد ابن باديس ناظم، رائعة شعب الجزائر الذي يرحل بعد فرضية اغتياله مسموماً.
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب
يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصّباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها وخذ الخطوب ولا تهب
وارفع منار العدل والإحسان واصدم من غصب
واقلع جذور الخائنين فمنهم كلّ العطب