يعقوب مراد
كلما زرت إدارة السجن في السويد لمساعدة سجين ما، أتذكّر حواراً للفنان الكبير دريد لحام في مسرحيته الشهيرة جداً «كاسك يا وطن»، من خلال مشهد لا يُنسى أبداً، وعندما يكون مسجوناً ووو..
غوار للسجان: «بدّي ورقة وقلم».
السجان مستفهماً: «وليش بدك ورقة وقلم»!؟
غوار ساخراً: «بدّي اكتب مذكراتي بالسجن».
السجان: «شو مفكّر حالك بالسويد…»!؟
كلما تذكرت هذا الحوار أبتسم وأتساءل، إنْ كان كاتب حوار المسرحية فعلاً يعرف طبيعة حياة السجناء بالسويد، أم أنه قال ذلك لمجرد معرفته أنّ السويد بلد حضاري جداً، يحترم الإنسان كإنسان له حقوق وواجبات يجب أن تؤمن له حتى لو كان مسجوناً.
وللذين لا يعرفون حال السجين في السويد، سأحاول أن أنقل ما أمكن صورة حقيقية وصادقة عن حقوقه، ومنذ أول يوم له في السجن..
عندما يرتكب أي إنسان جناية ما، ويتمّ القبض عليه، يتمّ التعامل معه على أنه إنسان طبيعي وليس مجرماً خطيراً، وأنه ارتكب خطأ ما، ولسبب ما، وليس خطيئة. لهذا كان هدف الدولة الأول هو توفير مكان مريح ليكون بمثابة إصلاح متكامل فيه العناية والرعاية، وكل الخدمات العلمية المتخصصة بعلم النفس والاجتماع.
أيضاً، تتعامل الشرطة مع السجين، كتعامل الممرّض مع المريض، بحيث يتحوّل السجن الى فترة نقاهة وراحة ومحاسبة للذات، ومراجعة شاملة لكل شيء بكلّ هدوء.
وتُعتبر السويد، الدولة الوحيدة التي تطبّق نظام السجن الليلي، بحيث يدخل السجين السجن مساء لينام فقط، ويخرج صباحاً وذلك في بعض الحالات الخاصة، ومنذ اللحظة الأولى يتم تكليف محامٍ للدفاع عنه، وتتكفل الدولة بدفع أتعابه، وبعد صدور الحكم يتمّ تحويله للسجن، حيث يُستقبل بطريقة لائقة جداً، ويتم شرح كل ما يحق له من حقوق وواجبات، وهي:
ـ للسجين الحق بالحصول على غرفة فيها تلفزيون حديث وتلفون ومطبخ مزوّد بكل ما يحتاجه وكأنه في بيته..
ـ للسجين الحق.. بممارسة أي رياضة يحبّها كتمرين ـ فوتبول ـ تنس ـ بليارد ـ سلة ـ سباحة أو قراءة أي كتاب من مكتبة السجن..
ـ للسجين الحق.. بالفطور والغداء والعشاء بنوعية طعام يشرف عليها اختصاصيون..
ـ للسجين الحق.. بالانتساب لمدرسة لغات أو مهن الحرة، ويتعلّم ما يراه مناسباً لمستقبله .
ـ للسجين الحق، بالحصول على راتب شهري يتراوح ما بين 200 دولار، إن لم يمارس أيّ عمل. وحتى ألف دولار في ما لو أراد العمل بأي مهنة يريدها كالنجارة أو الكهرباء أو غيرها من المهن..
ـ للسجين الحق.. بممارسة شعائره الدينية مهما كان دينه، وإدارة السجن ملزمة بكل احترام أن تؤمن له ما يحتاجه لذلك.
ـ للسجين الحق.. أن يتقدم بشكوى ضد أي سجان أو سجانة، في ما لو شعر بأي إهانة أو سوء معاملة، والقانون يكفل له تحقيق رغبته .
ـ للسجين الحق، بأن يتوقف عن تسديد أي ديون أو مستحقات عليه أن يدفعها حتى انتهاء فترة سجنه.
ـ للسجين الحق، باختيار مَن يريد لزيارته، وإدارة السجن ملزمة بتوفيرغرفة مع قهوة وشاي وقطع من البسكويت للزائر. أيضاً، سرير في ما لو كان الزائر زوجته أوحبيبته أو صديقته، وذلك بناء على رغبته بخلوة حميمية .
ـ للسجين الحق، وبعد قضاء فترة تسعة أشهر، الخروج من السجن أول مرة 8 ساعات شهرياً، وبعد ذلك 36 ساعة شهرياً، وبعد ذلك 48 ساعة شهرياً، مع تكفل إدارة السجن بدفع ثمن مواصلاته من السجن للمكان الذي يريده والعودة.
ـ للسجين الحق، أن يطلب من إدارة السجن، مساعدته للتعرف على امراة حسب رغبته، إن كان يريدها صديقة أو حبيبة أو من أجل علاقة دائمة. ولدى إدارة السجون ملفات تحوي أسماء وصور نساء يرغبن بالتعرّف إلى رجل وتكون قد دوّنت صفاتها والصفات التي تتمنى أن تكون موجودة بالرجل، والمسؤول المختص عن إدارة السجن، يُجري عملية تطابق بالمعلومات ويرى السجين المناسب ويتم تأمين لقاء للتعارف في محاولة للتوفيق، وخلق نوعٍ من الألفة وعدم الإحساس بالوحدة .
ـ للسجين الحق.. قبل نهاية مدة سجنه أن يعيش حياة طبيعية مع عائلة لمدة ستة أشهر من أجل أن يبدأ بالتأقلم مع الحياة، وتحصل العائلة المضيفة للسجين على مبلغ خمسة آلاف دولار تقريباً، من أجل طعام ومنامة ولبس السجين .
ـ أما آخر ما طبّق، فمساعدة السجين في الحصول على عمل خارج السجن بحيث يتقاضى حوالي الف دولار، والشركة أو المطعم الذي سيشغله يتقاضى حوالي الفين دولار، ويحق ذلك للذين أبدوا سلوكاً حسناً، وعند قرب انتهاء مدة سجنهم أما أجمل قصة عرفتها، فكانت ظاهرة ارتكاب بعض القادمين من دول البلطيق سياحة للسويد، مشاجرة أو سرقة أو ما شابه، حيث تمّ توقيفهم والحكم عليهم بالسجن ما بين سنة وثلاث سنوات تقريباً.. ولما تكررت مثل هذه الحوادث أثارت استغراب صحافي سويدي فبدأ بالبحث عن الأسباب. فركب الباخرة وذهب إلى استونيا ولتوانيا لمعرفة السبب، ولما عاد كتب في أكبر جرائد السويد مقالة قال فيها، إنّ الموظف في استونيا يتقاضى راتباً شهرياً حوالي 150 دولاراً. يدفع منه إيجار بيته وثمن طعامه وطبابته ومواصلات وكلّ شيء ولا يكفيه الراتب. فيأتي سائحاً للسويد وأول ما يصل للميناء يدخل باراً يشرب قليلاً ثم يفتعل مشاجرة يضرب رأس سويدي بزجاجة، أو يسرق سوبر ماركت، أو بنكاً… فيتمّ القبض عليه ويسجن لفترة عام أو اثنين أو ثلاثة ثم يخرج بعد أن يكون قد وفّر راتبه الشهري كاملاً ولم يصرف منه شيئاً، ويكون قد تعلّم مهنة جديدة، ولغة جديدة… يعود لبلده وبين يديه مبلغ محترم يبدأ به مشروعاً صغيراً…
ـ هل عرفتم لماذا أتذكر الفنان دريد لحام في كلّ مرة أزور فيها السجن…؟ لأنه إنسان قبل أن يكون فناناً.. لديه ضمير حي ينبض بنبض الناس، ويحسّ بمعاناتهم، ويتبنى همومهم وآلامهم، ومن خلال معرفتي به منذ أكثر من ربع قرن أعرف أن له وجهاً واحداً في الفن والحياة، وما أعرفه أنا ويعرفه أصدقاؤه المقربون، هو ما يعرفه نفسه مشاهدوه ومحبوه ومعجبوه، فهو ليس ضمير سورية فحسب، بل ضمير الأمة، وقد سعى من خلال رسالته الفنية إلى معالجة الكثير من القضايا التي تحمل عناوين براقة وجميلة، ولكنها مختلفة كلياً بالجوهر، وبحاجة إلى مراجعة شاملة وإصلاح مثل عبارة «السجن إصلاح وتهذيب» التي نراها معلقة في سجون العالم كله، وهي عبارة لا تطبيق لها، أما في السويد فهي حقيقة واقعية.
كاتب سوري مقيم في السويد