الموقف المصري من «الأسد» يكشف «القطبة المخفية» بين واشنطن وموسكو
روزانا رمّال
منذ لحظة التغيير في مصر في عام 2011 لم تؤشر ايّ من معالم الثورتين التي عاشتها الأولى على نظام الرئيس السابق حسني مبارك والرئيس محمد مرسي انها تتجه نحو تغيير في سياستها الخارجية، خصوصاً ما يتعلق في مفاهيم التعاطي مع قضايا اساسية تتعلق بالقضية الفلسطينية على سبيل المثال وهي الملف الاكثر التصاقاً بمصيرها والرؤية للقوى الدولية خاصة للولايات المتحدة الأميركية. لم يؤشر شيء في النزعة التغييرية ان الثورة المصرية هي ثورة نموذجية تقوم على التخلص من حقبة ماضية تتخلص من كلّ رواسب الماضي فكراً ومنهجاً ومنطقاً سياسياً او اقتصادياً.
لا يبدو انّ النظام المصري الحالي برئاسة عبد الفتاح السيسي نظام اكثر انفتاحاً على الصيغ الاقليمية الجديدة من منظار مصري بنطلق من اعتبار مصلحة البلاد على انها احد اهمّ ما ادّى لاندلاع الثورتين بل هو امتداد لسياسات سابقة لم تغيّر في مصر استراتيجياً. اللعب بالهامش المصري اليوم هو حنكة غربية تتصدّر واشنطن قيادة اسس ادارتها بحيث لا تتسم السياسة المصرية بالانعزالية ولا بالتبعية ولا حتى بالتطرف لفكر خاص يجعل منها جزيرة معزولة في منطقة شديدة اللهب.
وبالانطلاق لتفكيك مشهد الحضور المصري اليوم يمكن الحديث أولاً عن «النجاح» في إبعاد مصر نوعاً ما من شبح التطرف الذي اجتاح العالم العربي، وهو لوحده إنجاز كبير لكنه يستدعي البحث في أبعاده خصوصاً انّ لحركات التطرف أهدافاً غير محدودة لا تقع تحت السيطرة.
نجحت القاهرة في تجنّب وحش التطرف لكن هذا لم يكن ليحصل لولا أثمان مدفوعة لحكم سياسي قرّر التموضع الجديد مع المحافظة ضمنياً على الصيغة القديمة الجديدة التي تمثلها واشنطن مع حليف كمصر بالمنطقة. يمكن قراءة الخصوصية المصرية اليوم من جهتين الأولى وهي الاساسية «الانفتاح على روسيا بنفس الوقت الذي لا تزال فيها العلاقت مع الولايات المتحدة الأميركية بأفضل الأحوال، اما الثاني التموضع المصري الجديد والمغاير لكلّ ما عهدته المنطقة من دولة بحجم مصر عربياً لعقود وهو الاشتباك «المستجدّ» مع المملكة العربية السعودية من دون إعطاء هذا الاشتباك طابع الازمة، بل بالعكس تجاهل حجم حضوره في كافة تصريحات الرئيس السيسي مؤخراً مع كلام اكثر ديبلوماسية تجاه الرياض منه الى الواقع.
ماذا يجري اليوم كي يجاهر السيسي بموقع مصر الجديد؟
يقول الرئيس السيسي في حديث لقناة برتغالية RPT منذ ايام: «يجب دعم الجيوش الوطنية في كلّ من ليبيا وسورية والعراق، والجيش الوطني في سورية هو جيش نظام الرئيس السوري بشار الأسد». ويتابع «انّ مسالة إيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية هو الحلّ الأمثل.. لا بدّ من التعامل بجدية مع الجماعات الإرهابية ونزع السلاح منها، بالإضافة إلى الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، حتى لا يتسبّب القتال في تجزئة سورية، فضلاً عن إعادة إعمار ما دمّرته الحرب».
كلام شديد الوضوح تناول فيه ملفات أساسية اولاً: وحدة الجيوش العربية وصولاً لتكريس الجيش المصري جيشاً منيعاً ضدّ ايّ محاولات خرقه من قبل جماعات التطرف التي تغمز من أبواب خلافية مع السلطة والإخوان المسلمين من جهة ومع حركات مثل جماعة بيت المقدس التكفيرية من جهة اخرى.
ثانياً: رفض التقسيم بالكامل في سورية، ثالثاً: مكافحة الإرهاب، رابعاً: إعادة الإعمار وكلّ هذا تشترك فيه مصر مع قوة دولية كبرى هي روسيا، واذا كان هناك من سبب وجيه لتأييد الجيش السوري وتبني الأفكار التي طرحها السيسي من منبر أوروبي فهو سيكون التلاقي مع موسكو والعلاقات الجيدة التي بدأت تظهر الى العلن بصفقات اقتصادية وعسكرية شديدة الأهمية، واذا كان على السيسي الإبقاء على الحيادية او انتقاد الرئيس السوري بشار الأسد وسلوك جيشه، فإنه بهذه الحال ينتقد الموقف الروسي في سورية وحليفها الأساسي الذي أتت على أساسه الى المنطقة لتكون مصر أول بلد عربي كبير يؤكد أولاً على حتمية تقبّل الخيارات الروسية في المنطقة، وثانياً التأكيد على انّ الوجود الروسي طويل الأمد فيها والخيارات التسووية هي الأكثر حضوراً بالمرحلة المقبلة.
الأكيد انّ الموقف المصري المستجد ليس موقفاً خارجاً عن رغبة حليفين اساسيين للقاهرة هما واشنطن وموسكو، فالقاهرة التي اعتادت على الالتحاق بالموقف السعودي لعقود طويلة اصبحت اليوم بموقفها مؤشراً اساسياً على الموقع السعودي والمكانة في السياسة الأميركية، فأول خلاف جاء بشكل مفاجئ بعدما نقضت المحكمة المصرية قرار منح الهدية الثمينة التي كانت من المفترض منحها للمملكة اثر زيارة الملك سلمان للقاهرة، وهي جزيرتا تيران وصنافير، ما رتب ردوداً سعودية واضحة بين فسخ عقود نفطية واشتباكات اعلامية، لتكشف واشنطن عن نوايا محاسبة المملكة هي الأخرى بقانون «جاستا» الشهير الذي يسمح لعائلات ضحايا 11 ايلول 2001 محاسبة الدول الداعمة للمسؤولين عن تفجير برجي التجارة العالمية.
يكشف الخيار المصري اليوم نحو سورية «التنسيق» الكامل بين واشنطن وموسكو في المنطقة، وهو قطبة مخفية تجعل مصر اكثر «جرأة» ومطمئنة لمصيرها مع أكبر دولتين عظميين بالمرحلة المقبلة، فتلعب دور «الوسيط» حيناً و«ساعي البريد» احياناً، فلا القاهرة خرجت عن التلازم التاريخي مع واشنطن ولا نكثت بالعلاقة «المعززة» حديثاً مع روسيا وما فيها من وعود اقتصادية استغنت عبرها عن علاقة مكلفة بالسعودية التي تتجه نحو انحدار اقتصادي بكلّ الأحوال.