أغاني الاستقلال… تراجع فنّي وغياب التميّز

جهاد أيوب

لم تعد الأغنية الوطنية اللبنانية تستقطب المتابعة. وبصراحة، وبعيداً عن الهبل العنصريّ، شاهدت عبر فضائياتنا، واستمعت منذ أيام إلى أكثر من عشر أغنيات لبنانية قيل فيها إنها وطنية وعن الجيش، وتُعنى بيوم الاستقلال، وبمناسبات أعيادنا الوطنية. وبصدق، لا أغنية تستحق المتابعة البصرية، ولا حتى السمع. غالبيتها مصوّرة رفع عتب وبعيداً عن فكرة تفرض المشاهدة والتعليق الايجابي غير أنها تصوّر آليات الجيش، وارتداء الملابس العسكرية من قبل المغنّي الناعم جدّاً، والمغنية صاحبة الصوت الخافت والمسكين بنبراته المتواضعة.

كلام خفيف، وسخيف، ومكرّر، وساذج، ومألوف لا ينتمي إلى الصور الشعرية وقد لا يحسب على الشعر. أغلب ما تمكنّا من مشاهدته والاستماع إليه مجرّد صفصفة كلامية، وتجميع مفردات سمعناها في أغنيات قديمة، ونشعر أننا قلناها في جلساتنا العابرة من دون أن تحرّك فينا عاطفة. فقط تجعلنا نترحم على أعمال الماضي، ونتعصب لها.

وألحان لا إبداع فيها، راكضة، سريعة، يراد لها أن تحمّسنا فإذ بها تشعرنا بالملل السريع رغم أهمية المناسبة. فقط تجعلنا نترحّم على تجارب سابقة غنية لا تزال عالقة في أذهاننا وذاكرتنا.

أداء ممل ورفع عتب، لا يجذبنا إطلاقاً، ولا يتوقع منّا أن ننسجم معه، ولا يشدّ عزيمتنا، ولا يتطلّب التركيز، فقط يجعلنا نترحم على شخصيات فنية تملك الصوت الهادر والأسطوري والبارع والمعطاء بألوان تصبّ في صالح اللحن والكلام بإحساس صادق يزرع فينا الأمل والمحبة والعشق لكل ما في الوطن… فعلاً، رحم الله الإبداع. والوطنية أصبحت غيرة وليست مسؤولية… «وشوفوني ياه… أنا غنّيت وأغنّي، وليس مهماً كيف أغنّي».

الغناء الوطني هو الإحساس الصافي، وصعوبته بالإقناع لا بالصراخ والنطّ والنعومة المفرطة والدلع وارتداء ملابس الجيش على حساب اللحن والكلمة والغناء والموهبة. ولا ندري كيف تقبل مديرية التوجيه في الجيش اللبناني، وقِسم الإعلام المسؤول في الجيش، المشاركة في تصوير أعمال أقلّ من متواضعة كهذه. وربما تعمل على تنفيذها، وتسمح لبعض عناصر الجيش بالمشاركة في تصويرها.

الأغنية الوطنية الحقيقية تفرض نفسها بقوّة الإبداع والتميّز، لا لمجرّد المشاركة. وترسم الوجدان والحلم، وللأسف على ما يبدو أصبحت سهلة الصنع والتصنع والتصنيع، وفبركات لا تترك الأثر الايجابي عند المواطن المتلقّي، وجعجعة لحنية لخواء الجملة الموسيقية وفراغ المعنى الكلامي، وتجميعات كلامية من هنا وهناك، وأداء غنائي لا أحاسيس وطنية فيه، ولا أحساس فنّياً ينسجم مع الكلمة والبوح، أعمال سطحية بمجملها، ومسطّحة بفكرتها.

المطلوب من قيادة الجيش أن تشكّل لجنة تصنيفات غير معروفة إعلامياً، ولا يسمح بأن يتعرّف إليها أصحاب الغناء الطائر. ودورها أن تشاهد، وتستمع، وتقيّم، وتقرّر، وتحدّد إذا كانت صالحة وتتمتع بمواصفات توصلها إلى الانتشار والبث، وايضاً مطلوب من هذه اللحنة المعنية عدم السماح لأن يشارك عناصر الجيش بتصوير أعمال تضرّ ولا تضيف، خصوصاً أنّ الموروث الغنائي الوطني خطير ومهمّ تربّعت على عرشه أخطر الاصوات في مكتبة الغناء العربي، ونذكر صباح وفيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين وآخرين لا تصل قوة موهبتهم إلى من ذكرتهم لكنّها مواهب مميزة وجميلة وقوية، وهذا يتطلب مسؤولية كبيرة في تقديم أيّ عمل وطنيّ بعد هذا الإرث والحِمل الهام.

في السابق، قيل إن أكثر من غنّى للوطن الشعب الفرنسي والشعب اللبناني، وللحق تميّز لبنان بتقديم أجمل الاعمال الوطنية، ولا عجب إن سمعنا أغنيات لبنانية تردّدت في كل العالم العربي. فالعمل المتميز يفرض المتابعة، وينشر الرسالة الوطنية في كل المعمورة، وليس صحيحاً أن الاغنية الوطنية لا تصنع الشهرة والانتشار الأوسع، ولدينا عشرات الدلائل ومنها «راجع يتعمّر لبنان» للمبدع زكي ناصيف، و«يسلم لينا لبنان»، و«يا لبنان دخل ترابك»، و«مرحبتين»، و«أهلا بهالطلّة»، و«عامر فرحكم» للاسطورة صباح. و«بحبك يا لبنان»، و«إيماني ساطع»، و«بيّي راح مع العسكر» لجارة القمر فيروز، و«لبنان يا قطعة سما»، «يا بيت صامد بالجنوب» للهادر وديع الصافي، و«غالي والله يا جنوب» للشيخ نصري شمس الدين، و«بكتب اسمك يا بلادي» للكبير جوزف عازار… وأيضاً وليد توفيق في «يا بابور»، وماجدة الرومي في «عم بحلمك يا حلم يا لبنان»، وملحم بركات، ومارسيل خليفة، إضافةً إلى آخرين.

وللحقّ، وخلال العرض العسكري، ولولا صوت السيدة صباح تغنّي «تعلا وتتعمّر يا دار» ألحان إيلي شويري بعدما قدّمتها فرقة الجيش، ووزّعتها مصوّرة على جميع الفضائيات اللبنانية لتبثّها في آن، لكان العرض ناقصاً. تفاعلنا بسحر الساحر، فالأغنية المشار إليها أصبحت كالنشيد الوطني تُردّد في كل المناسبات، وتحفظها كل الاجيال. وأيضاً رافق ذلك غناء «تسلم يا عسكر لبنان» حيث عشقنا للنغم والكلام والاداء، ولا ننسى الأصوات التي ذكرناها آنفاً تصدح في كل الاذاعات منذ فجر يوم الاستقلال وبثقة.

وهذا دليل على أن الأداء الصادق لدى الفنان المسؤول يخلق عند المواطن أهمية في بحثه عن وطنيته، ويزرع بالعقل الباطني عند كل طفل وشاب وصبية عنفواناً وحباً لوطنه أكثر من بعض الخطابات السياسية الطنانة الرنانة الفارغة من المعنى الوطني، لا بل حينما نسافر لا نحمل معنا غير أصوات رموزنا الفنية التي ذكرت تُضاف إليها مسرحيات زياد الرحباني، أما خطابات زعاماتنا السياسية فنهملها، ولا نتذكرها، ولا نكترث لها.

الجيل الحالي من الفنانين الشباب أمام امتحانات دائمة تتطلب أكثر إدراكاً ووعياً كي يبقى أطول، قد يكون النجاح فرصة وصدفة وأسهل، ولكن البصمة والاستمرارية هما الاصعب والأهمّ. وأن نضيف في رصيد المكتبة الموسيقية العربية الوطنية غاية مطلوبة لا وسيلة مرحلية والسلام.

وهذا حال أعمال شباب الاغنية المصرية بعد كذبة «الربيع العربي» والثورة الخاوية حيث خرجت مجموعة اغنيات لم تترك أيّ أثر، وظلّت أغنيات عبد الحليم والشيخ إمام حاضرة وبقوّة. وأيضاً في سورية، ورغم حدة المعارك بقيت أغنية محمد سلمان «سورية يا حبيبتي» هي الأفضل والأقوى والأهم. وأيقونة لطفي بوشناق «أنا مواطن» في تونس.

الغناء الوطنيّ رسالة هادفة مشغولة بحساسية مرهفة، وبعناية ودقّة، والخطورة المحببة فيها إذا أدركنا اهميتها في تثبيت النصر والمعنى الجوهري لرسالة الوطن، وفعلاً لكلّ زمان أغنياته الوطنية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى