الأصل نقطة والإنسان يدور في الحياة فإمّا يسمو أو يهبط إلى أسفل
دمشق ـ سلوى صالح
يواصل الفنان التشكيلي بديع جحجاح دورانه الفكري والفني والروحي، عبر رحلة بحث مستمرة مفتوحة على الكون تطلق العنان لمشروعه المسكون بالفلسفة الروحانية، لإيصال رسالة بأنّ ما زال هناك مكان للفن والجمال وسط هذا الخراب والدمار الفكري والجسدي والإنساني. ويقول إن للجمال والفن قيمة ومعنى كبيرين في هذا الزمان، وفي هذه الظروف الصعبة، لكن يجب أن يكون هذا الجمال ممزوجاً برسالة مستدامة تحمل قيماً تمد الجسور بينها وبين الآخرين.
من وحي الأزمة قدم جحجاح مشروعه «دوران أفلا» المنبثق من الفوضى والاستقراءات التي لمسها من حوله، ليجد أن الإنسان مهما يكن شكل توجهه يعاني فقراً روحياً وإشكالية في تقبّل الآخر والتحاور معه ومدّ جسور التواصل. ولأنه فنان، لا يستطيع محاسبة من يخطئ ومن يحمل السلاح فيلجأ إلى مزيج معاصر عبر اللوحة التشكيلية والحرف العربي، مستقياً نبضه من الآداب العالمية والنص المقدس في توليفة جديدة. وحين رسم الدرويش مؤدياً رقصة المولوية لم يكن هدفه التسويق للفكر الصوفي، بل تجاوز جميع القوالب الجاهزة، منطلقاً من ضوابط أخلاقية نشأ عليها، بيد أنه منفتح دوماً على ثقافات الآخرين بأسلوب لاعنفي مفعم بالمحبة والرضا واللطف والعطاء، فالإنسان موجود في سائر لوحاته، انطلاقاً مما ورد في القرآن الكريم «وخلقنا الانسان في أحسن تقويم».
يرى جحجاح أن «دوران» ليس مجرد لوحة بل يتجاوز فكرة اللوحة إلى التركيب الفكري والمعرفي عبر الموسيقى والفن والرقص التعبيري، وأخذ لقطة المولوي رمزاً يحاكي وضعنا اليومي ودورة الحياة اليومية. هذا الدوران ينتمي إلى فكرة وعلاقات مثل علامة الإنسان مع الكواكب والنجوم، ومع كل ما يتحرك في هذا الكون، وبينها الحركة الدائرية للمنظومة الشمسية، فالنور ملك لكل الناس.
حول فكره الإيماني يعتبر جحجاح مواليد 1973 أن أي نص مكتوب ينبعث منه ضوء جميل هو بمثابة تيمة عظيمة بالنسبة إليه، مثل قول سعد الله ونوس مثلا «نحن محكومون بالأمل»، وهنا الفرق بين النصوص المضيئة والنصوص المعتمة التي يُروّج لها اليوم، فعندما يتحول الانغلاق الديني الى منظومة سياسية تقود العالم باسم الدين يهتك الإنسان. ولا يقتصر هذا الموضوع على فترة الأزمة، إنما هو موضوع عالمي تتحمل مسؤوليته الحكومات ومناهجها وتعاليمها ومؤسساتها الدينية والاعتقادات وطرائقها والفقر الموسيقي والفني والشعري والثقافات الشرقية التي بدأت تتراجع أمام العولمة. ذلك كله يحتاج إلى فكر مختلف للتخلص منه. ووجد جحجاح نفسه أمام لوحة جديدة موضوعها الإنسان الذي يستقي نبضه الأخلاقي من الكتب المقدسة ومن الكتب التي تحمل قيماً عليا ونوراً عظيماً يتوهج من خلال علاقته بالآخرين.
يهيئ جحجاح الذي شارك في عشرة معارض وأقام خمسة معارض منفردة لمشاريع معارض جديدة في كل من دبي وبيروت وباريس، إضافة إلى عمله الراهن في تصميم لوغو العلامات التجارية.
ويقيم معرضه المقبل تحت عنوان «دوران المثلث»، موضحا أن كل لغة نكتبها هي عبارة عن حوار بين ثلاث نقاط، فحروف الباء والتاء والثاء هي مثل جسد صامت، ولكن تحوّلات النقطة تغيّر صوت هذه الحروف وطريقة نطقها، وفي هذا الصدد أنجز فيلماً قصيراً عنوانه «تحوّلات نقطة»، فالنقطة الثابتة لا تعني شيئا وتشبه في ذلك الفكر المتعصب، والجسد عبارة عن نقاط تجمعت بسبب محبة الله لنا فتشكل الإنسان.
ويحكي في معرضه المقبل، المرفق بشريط غرافيكي توضيحي عن ولادة الشكل والأبجدية الإيمانية والمفردة الجمالية وكيف يتجلى حرف الألف في الضلع العمودي للمثلث القائم، الذي يمثل العلاقة بين الإنسان وربه بعلاقة عمودية خاصة، فيما يعبر الضلع الأفقي عن الأنا والأخر وعلاقة المجتمعات في ما بينها، وهي علاقة أفقية مضبوطة بالسلوك والأخلاق.. أما الدائرة فأصلها نقطة مثل الانسان الذي يلف ويدورفي هذه الحياة فإما يسمو ويتصاعد أو يهبط إلى أسفل سافلين.
في معرضه «دوران2» كانت هناك أربعة رموز تحكي عن نون والقلم وما يسطرون والمولوي وكلمة الله، إضافة إلى المنظومة التي تخاطب العقل: «أفلا تعقلون /أفلا تتفكرون /أفلا تتذكرون /أفلا تشكرون»، انطلاقاً من ضرورة احترام العقل الذي ميزنا الله به عن الحيوان وضرورة التذكر بأننا الى زوال وعابرون في هذه الحياة ويجب أن نكون شاكرين دائماً.
يقول الفنان إن بلادنا بلاد التين والزيتون هي بلاد معتدلة، بعيدة عن التشدد والفكر الوهابي الذي حاول اختراقها منذ أربعينات القرن الفائت، موضحاً أن اللوحة تتحول اليوم الى رمز، وهذا ما فعله جحجاح من خلال اللوغو الذي صممه ونفذه بأشكال وحجوم ومواد متعددة، وهو عبارة عن خطوط منحنية متشابكة استوحاها من لفظ الجلالة الله ورقم تسعة الذي يدل على أننا جميعا متساوون كلنا ولاد تسعة وفيها قلب صغير داخل قلب كبير، وكلّها مجتمعة تشكل حركة راقص المولوية الذي يأخذ طاقته النقية من الإله بيده اليمنى فيمررها على عقله ثم يبرزها بيده اليسرى عبرحالة دورانية لا تتوقف، وهنا يكمن جمال حركته، فالدرويش لا ينتمي اليوم الى فئة معينة، وثمة من يعتبر رقص المولوية بدعة، إلا أن الفكر الصوفي الذي حمله جلال الدين الرومي ومحي الدين بن عربي وإخوان الصفا والحلاج ورابعة العدوية هو فكر جميل لكنه محرم لدى المتشدّدين.
يرى صاحب دار نشر «رفوف» أن كل تشدد أو تعصب إنما يقود إلى حالة مرضية لا شفاء منها، فالتمسك بالفكرة عن جهل معرفي وعدم نضج يغلق الدماغ في وجه أي فكر مغاير، منتقدا التركيبات السياسية المغلفة بالدين القائم على فناء الآخر وتهجير الأدمغة، فكل شيء خارج على الطبيعة الفطرية مصيره الى زوال، وأي جسم غريب مرفوض من خلال التركيبة الصحيحة.
لأن جحجاح مسكون بالهم الوطني والإنساني، يرفض مغادرة الوطن ويشعر بضرورة البقاء فيه ويشعر كفنان بالمسؤولية حيال وطنه وبأن عليه أن يكون قدوة للآخرين ويتمسك بجذوره لا أن يصدر أفكاره من الخارج، رغم أنه يستطيع الإقامة في أي دولة أوروبية بسهولة من خلال أسفاره المتكررة إليها ونشاطاته الفنية فيها، داعياً مؤسسات الدولة إلى تقديم الدعم والتسهيلات إلى الذين استمروا في عملهم في الظروف الصعبة وإصدار قرارات تتناسب مع ظروف الأزمة التي دخلت عامها الرابع ووضع خطة عمل ناجعة لذلك.
يعتزم جحجاح الذي نشأ في بيئة تحب الفن والشعر إطلاق مشروع حول الدائرة الكونية الإنسانية، أي أن يكون قلب الإنسان نابضاً بمحبة الآخرين، وأن يكون فضاؤه السلوكي المركب مع الآخرين عالي المستوى ممزوجا بالأمل، فالإنسان يحيا بالمفردات والكلمات، فالكلمة ذات وهج وطاقة، والحروف حقيقة كونية تبقى عندما نزول، كذلك الأرقام هي العالم الجميل والحقيقي الذي يترك صدى في الكون، وينعكس ذلك في لوحاته.
يشعر جحجاح بأنه يحمل مسؤولية ورسالة إنسانية، وبأن موهبته هدية أهداها له السر الكوني، وبالتالي عليه رد هذه الهدية من خلال محبة الناس وخدمتهم، وهو في الوقت نفسه إنسان عملي يملك خبرة في إدارة الأعمال والتسويق والدعاية والإعلان.
حول ما يمكن أن يقدمه الفن خلال الأزمة، يرىأنه يمكن الإفادة من القيم المالية للوحات في إعانة المنكوبين والمحتاجين، فللفن حضور في حياتنا كأيّ مادة أخرى، فضلا عن أنه يؤرخ لما يحصل، فهو ذاكرة وطن ويساهم في كتابة الحوادث بلغته الفنية، أو يساهم مادياً بقيمته المالية.
يرى صاحب غاليري «ألف نون» أن المحنة التي يمر بها الوطن تستدعي منا الاهتمام بالثقافة الروحية في تربية الأجيال الناشئة، لذا يسعى الى إنشاء مؤسسة ثقافية اسمها «جوهر» تعتني بالثقافة الروحية وتكريسها عبر دعم الموسيقى والغناء والأدباء والمفكرين ودعم الفنانين والخطاطين والنحاتين، وهذا يحتاج إلى تضافر جهود مجموعة من الناس المؤمنين بالثقافة والفن، وإلى رأس مال يوظف في هذه المؤسسة لنشر الفن الذي يصب في منحى روحاني، ونشر أفكار جديدة بين الأطفال والشبّان تعلمهم قيم الحب والتسامح والتعاون والتعامل مع الآخرين، وصولاً إلى الإنجاز عالي المستوى، لنتشارك أخيراً هذا الجمال.
الأم الانثى في رأي الفنان هي الأساس أولاً وأخيراً في المشروع السوري المقبل، لذا يجب اعتماد أبجديات مختلفة وجديدة تحترم هذا المخلوق المقدس وتحترم هذه الأنثى التي منها يولد الجيل الجديد المتعلم العارف المنفتح الذي يقبل الآخر ويبني معه جسورا من المحبة.
يخلص صاحب شركة «ب.ج» لتصميم العلامات التجارية «لوغو» إلى القول: «لسنا في حاجة إلى فنان أزمة أو ما بعد أزمة، بل نحن في حاجة إلى فنان فيلسوف يحاول تجسيد الأفكار عبر أبجديات الجمال من لون وتشكيل وجميع المركبات الكيميائية التي تولد لوحة، لكن ليس لتزيين الجدارفحسب، إنما تنتقل مع الريح والنسيم الجميل الى جميع الناس، عبر رموز تبقى ولا تزول، لأن ثمة وطناً نتشارك فيه مع الآخرين، ونحن في النهاية مفردات سورية تعي تاريخها الممتد لعشرة آلاف سنة».