أزمة تشكيل حكومة الحريري تُخفي صراعات استراتيجية
د. وفيق إبراهيم
يواصل الرئيس المكلف سعد الحريري محاولات تشكيل حكومته وسط تمسك القوى السياسية بمطالب متباينة الى حدود التناقض… فهل تكمن الأزمة الحكومية في المصاعب الناتجة عن توزيع حقائبها، أم أنّ هناك أسباباً أعمق تتمظهر بشكل خلافات على الحقائب؟
كلّ مَن يتابع النهج السياسي لرئيس مجلس النواب نبيه بري يعرف أنّ الرجل يهتمّ بمعادلة الحكم أكثر من اكتراثه بالحقائب. والدليل أنه تجرأ على اقتطاع مقعد وزاري من حصة الطائفة الشيعية ومنحه لحليفه السني فيصل كرامي لتسهيل تشكيل حكومة نجيب ميقاتي، وذلك بعدما تعذّر تأمين مقعد له بسبب كثافة المسنين في السنّة آنذاك.
وهناك مثل آخر أكثر وضوحاً… إذ بناء على إصرار الرئيس الراحل رفيق الحريري على تولي وزارة المال وبعد تدخل سوري، اقتنع بري بأنّ «المعادلة» أقوى من الحقائب، باعتبار أنّ ما كان يجمعه بالرئيس الحريري هو التحالف مع سورية الأسد، إلا أنه اشترط على مرحلية التنازل وخصوصيته.
وهكذا يتضح أنّ الرئيس بري رجل معادلات سياسية يندرج في إطارها العديد من الأمور: تركيبة الحكم بدورها الداخلي والخارجي، وتوزيع الحقائب التي تصبح هامة بعد جلاء العنصر الأول.
ويبدو أنّ تركيبة الحكم ليست واضحة عند سيد عين التينة… أليس هو الأكثر تاريخية بين الرؤساء والأكثر تيقظاً إلى لعبة المحاور والتحالفات؟
وكيف يمكنه أن يقبل بتغيير أساسي في الأداء الداخلي للحكم ويستسلم لتوجهات خارجية لا تتناسب مع ثلاثة عقود من قتال ضارٍ في الخارج من طريق حزب الله ولداخل بواسطة القوى الوطنية التي لا يزال الرئيس بري علماً كبيراً بها؟
داخلياً، يلحظ بري نشوء تحالفات مريبة لها أبعادها الكارثية على مستوى الوطن. ويستشعر أنها محاولات لإعادة إنتاج مرحلتي الستينيات والسبعينيات بدليل أنّ هناك إصراراً من فريقين مسيحيين على الاستئثار بمقاعد المسيحيين في الحكومة مع بعض تحالفاتها. بشكل يعزل قوى تاريخية عمرها من عمر لبنان. فأحزاب القومي والشيوعي والبعث والمرده وآل المر والفرزلي وغيرهم ليست هامشية، وهؤلاء وقفوا بكبرياء الى جانب حزب الله وحركة أمل في تعطيل الانتخابات الرئاسية، حتى انكسر الحلف المضادّ وارتضى مكرهاً بعون رئيساً بالأرقام، وليس من اقتناع.
لذلك لا يجوز أبداً إقصاءهم من تشكيل الحكومة استناداً الى قاعدة الأخلاق السياسية من جهة والأوزان السياسية من جهة أخرى، ويبدو أنّ «المخططين الجدد» عند التيار الوطني والقوات اللبنانية يحلمون بالإمساك بنصف المقاعد الحكومية مقابل تشتت القوى الأخرى فيتمّ إنتاج مرحلة الستينيات والسبعينيات.
أما عن التوجّه الخارجي للحكم، فهو بدوره يعارض «التطور التاريخي» لوصول العماد عون لرئاسة الجمهورية، فليس طبيعياً أبداً أن يزور لبنان موفد سعودي يعلق بعد لقائه الرئيس عون أنّ أول زيارة للرئيس اللبناني ستكون للسعودية، علماً أن لا أحد يمانع ذهاب عون الى الرياض لكن قاعدة السيادة والاستقلال تتطلّب حرصاً على تمسك الدولة اللبنانية بإعلان مواقفها وقراراتها.
وهناك سياسات للدول تكون في العادة أكبر من ميول سياسييها. فلبنان يقيم علاقات دبلوماسية عادية مع سورية. وسفيرها يقيم في لبنان؟ فهل يملك الرئيس المكلف سعد الحريري الحكومة إرثاً عن أبيه أو عائلته حتى يرفض مصافحة السفير السوري الذي حضر لتهنئة العماد عون في قصر بعبدا! الحكومة يا شيخ سعد ليست حزب المستقبل حتى تعيّن نفسك وعمتك وابني عمتك… وربما لو وجد حريريون آخرون لعيّنتهم… ألست تابعاً لتلك السلالة من المولهين بالتوارث؟
ولن نكشف سراً إذا قلنا لبعض المغامرين إنّ اختلاف الموازين بين الستينيات والقرن الحادي والعشرين يعطّل أيّ إمكانية لتنفيذ أحلام مستحيلة.
والدور «الإسرائيلي» لم يعد موجوداً في لبنان كما في 1982… هناك مقاومات وقوى مستعدّة لمنع تأثر الداخل اللبناني بالإرهاب «الإسرائيلي». إضافة الى أنّ العماد عون لن يقبل بنمو هذه الاتجاهات المريبة داخل الحلف الجديد الذي بدأ بالتشكل والتبلور.
وبالاستنتاج يتضح أنّ هناك نزوعاً عند فريق محدّد جداً من تحالف التيار الوطني – القوات اللبنانية، لبناء معادلة داخلية تعتقد أنّ بوسعها السيطرة على حكومة لبنان وبالتالي على البلاد… وتريد هذه الفئة ترتيب قانون انتخابي يعزل المسيحيين اللبنانيين عن الأصوات الإسلامية. وبذلك يمكن حصد أكثرية الـ64 نائباً على قاعدة المناصفة… إنما بموجب أيّ قانون؟ الأغلب أنه الأرثوذكسي!
والمعروف أنّ الدواء يُعطى للمريض بعد تحديد دائه… فلبنان مصاب بتشتت أبنائه على القاعدة المذهبية والطائفية. لذلك يجب أن يكون الدواء مناسباً لإعادة تجميع اللبنانيين. وهذا غير ممكن إلا بانتاج قانون انتخابي يجعل اللبنانيين بحاجة لبعضهم بعضاً من الناقورة حتى النهر الكبير الجنوبي، وذلك بناء على قاعدتي المنافسة والنسبية.. لكن المؤسف أنّ هذا الفريق المحدود يعتقد أنه يستطيع ممارسة سياسات جذب إزاء القوى اللبنانية الأخرى وحسب الموضوع وبالقطعة. فتارة يتحالفون مع جنبلاط ومرة مع الحريري وأحياناً مع الرئيس بري ويبيعون المقاومة خطابات عن التصدّي لأعداء لبنان مع التشديد على الحق الحصري بالسلاح للجيش اللبناني.
إنّ بناء معادلة داخلية جديدة على أساس طائفي يريد الاستئثار بالبلاد هو مشروع سقط بالضربة القاضية ولا يمكن إعادة إنتاجه لأسباب داخلية مرتبطة بالأحجام الداخلية والإقليمية لحزب الله وحلفائه والقوى الوطنية المتحالفة مع سورية.
ولا تقف هذه القوى أمام إعادة تشكل قوى مسيحية وطنية تريد تأسيس علاقات متوازنة مع الطرف الإسلامي تزيل آثار مرحلة 1990 -2016 وهي مرحلة تسلط الحريرية السياسية على البلاد وتمكنها من إلغاء الدور المسيحي والشيعي والدرزي وحتى أدوار السنة الوطنيين. ولم يأت هذا التمكن إلا من مصادر القوى الإقليمية السعودية والدولية أميركا وفرنسا التي تمتع بها طويلاً الرئيس رفيق الحريري.
أما على المستوى الخارجي لعلاقات الحكم الخارجي فهناك دور فرنسي واضح من خلال خلايا نائمة للفرنسيين موجودة داخل التيار الحر. هؤلاء ينهضون اليوم لإعادة ربط لبنان بقرن المؤتمر الفرنسي الرابع لدعم لبنان الذي قد ينعقد قريباً.
على قاعدة أنّ فرنسا «أمّ الدنيا عموم»، كما كانوا يردّدون في مطلع القرن العشرين، وهي بالتالي الدرب الذي يؤدّي إلى الحماية الأميركية… وهذه التحليلات تصطدم بقوتين… العماد عون الذي يفترض أنه لن يقبل بذلك، والقوى الوطنية والمقاومة… وهذه القوى التي اعتادت على تحويل نهار المتآمرين إلى جحيم.
أما على مستوى توزيع الحقائب الوزارية فهي انعكاس للأزمة السياسية. والتشدّد في توزيعها مرتبط بأزمة الثقة المفقودة سياسياً.
والمعروف أنّ الحقائب نوعان سيادي وخدماتي. وهناك نوع ثالث أهميته محدودة ومحصورة باللقب الى جانب بعض التنفيعات.
وأسباب الصراع الحادّ تتعلق بإصرار القوى المختلفة على الإمساك بوزارات توفر خدمات لمحازبيها وتنفيعات لكوادرها… أما المنسيّ الأساسي فهو المواطن الذي يحق له أن يسأل رؤساء الحكومات المتعاقبين بعد ديون أرهقت الدولة بنحو ثمانين مليار دولار… أين الكهرباء والماء والجسور والطرقات والبنية التحتية والنفايات والتعليم والأمن؟
لذلك فإنّ توزيع الحقائب لا يفترض أن ينال مساحة كبيرة من وقت المعنيين، عندما تصبح الوجهة السياسية للدولة تعبيراً عن قواسم مشتركة بين القوى الأساسية في البلاد. وعندها فقط لن يأخذ هذا التوزيع إلا حجمه الفعلي وبناء على معطيات أساسية: الوزن السياسي للقوى والأدوار التاريخية. وعندها لا يستطيع أحد القبول بإصرار القوات اللبنانية على أربع حقائب وزارية وهي التي لا تمتلك إلا نائبين فعليين عن منطقة بشري، أما الباقون فهم هدايا من تيار المستقبل والحزب الاشتراكي.
لا يلغي هذا التحليل إمكانية تشكيل سريع للحكومة، لكنها لن تكون حكومة العهد الأولى. وهذه لن تصبح قابلة للإنتاج إلا بعد صدور قانون انتخاب جديد. وإلا فإنّ البلاد ذاهبة إلى أزمات حكومية قد نترحّم خلالها على عهد الرئيس سليمان بسيئاته وسقطاته الكبيرة…