في الذكرى الـ77 لسلب «اسكندرون» بتآمر فرنسي تركي يهودي: سعاده أعلن استعداد الحزب للدفاع عن حدود اللواء.. والكتلة الوطنية اعتبرت خسارته لا تستحقّ الاهتمام
كتب نظام مارديني
لم تمح السنوات الـ77 من وجدان السوريين عامة واللوائيّين بخاصّة، ذكرى سلخ لواء اسكندرون عن أمّه سورية، وتقديمه من قِبل الانتداب الفرنسي هديّة لتركيا، الدولة الحديثة التي رسمت حدود كيانها على أنقاض الدول التي كانت تحت هيمنة السلطنة العثمانية لأكثر من 500 عام.
من الضروري القول، إنّ الأزمة السورية القائمة منذ ست سنوات، والتي شاركت تركيا في تعميق جرح السوريّين فيها، بل وتكرارها مؤخّراً بالحديث عن ولايتَي حلب والموصل باعتبارهما من ممتلكات السلطنة العثمانية. إذاً الأزمة السورية ستعيد، بعد انتهائها وانتصار الدولة السورية فيها على قوى العدوان، أهميّة إعادة قراءة موضوع الحدود الشمالية للهلال السوري الخصيب، وهي تلك الحدود الممتدّة من خليج اسكندرون وحتى مدينة «حكاري» على الحدود الإيرانية، ونحن إذ نحدّد اليوم هذه القراءة للمسألة اللوائية، فإنّ هذا لا يعني نسيان بقيّة المناطق والمدن والقرى السوريّة المحتلّة من قِبل تركيا.
وفي حين يستمر انخراط تركيا في العدوان على سورية والعراق طبعاً ، ضاربةً بعرض الحائط حتى مصالحها التي ستتأثّر من خلال دعمها للإرهابيّين، فإنّه من المفيد الإضاءة على دور اللوائيّين الوطنيّ اتجاه وطنهم سورية خلال هذه الأزمة القائمة.
انتفاضة اللوائيّين
يتحدّث الباحث اللوائي الصديق سومر سلطان بإسهاب عن خلايا لوائيّة تشكلّت ذاتياً في قراءة له نشرها موقع «زنوبيا»، بعضها تولّى استهداف المسلّحين، وخصوصاً الأجانب، وبعضها الآخر عمل على «تنظيف» بيئته بيده من كلّ الشوائب المريبة. متحدّثاً عن خروج عشرات المظاهرات المتضامنة مع سورية في مدينة أنطاكية وقد نظّمتها مجموعة أطلقت على نفسها اسم «فدائيّو الأسد».
وكانت بعض هذه المظاهرات شهدت في صيف 2013، مواجهات شرسة بين اللوائيّين وقوات الشرطة التركيّة، وذلك على مدى عدّة أيام حيث قمعت تظاهراتهم بالحديد والنار، وانجلت عن شهيدين أحدهما استشهد بقذيفة غاز مسيل للدموع أُطلقت من مسافة قريبة جداً لدرجة مريبة بحيث أصابت صدغه، والآخر أسقطه قنّاص من سطح مبنى اعتلاه ليرمي بالحجارة على قوات الشرطة التي كانت تحاول اقتحام الحي العروبيّ الثائر.
كانت هذه الموجة من التظاهرات مميّزة، فهي شهدت للمرة الأولى منذ السبعينات تحرير حيّ بالكامل من أيّ وجود رسمي لأجهزة الدولة التركية. وكان بعض مشاهد المواجهة يحاكي مشاهد اقتحام قوات الاحتلال الصهيوني لمخيم جنين مثلاً.. ويقول أحد الناشطين في التظاهرات: «لم نقم إلّا بواجبنا اتجاه إخوتنا وأحبائنا في سورية».
وأشار الباحث سلطان إلى حدث الانتخابات البلديّة التي رشّح فيها «العدالة والتنمية» وزير العدل السابق سعد الله أرغين لبلدية «هاتاي»، في حين رشّح «الشعب الجمهوري» شخصاً اسمه لطفي صواش. وقرّر أنصار الإدارة السورية دعم الأخير، وزاد في حماسهم له أنّ أرغين لغبائه صرّح بأنّ فوز صواش «يعني رفع راية الأسد في هاتاي». وكان للمعركة بُعد آخر يتعلّق بأنّ البلديات عموماً في تركيا تتمتّع بصلاحيات واسعة، وبأنّ البلديات الملاصقة للحدود تلعب دوراً في إيواء المسلّحين وتوفير احتياجاتهم تحت مسمّى المساعدات الإنسانية. وزاد في الاحتدام أنّ الانتخابات تزامنت مع اشتباكات كسب. وبالنتيجة فاز مرشّح «الشعب الجمهوري» فوزاً ساحقاً بفضل تصويت اللوائيّين الكثيف له. ففي بلدة مثل الحربيات، بلغت نسبة التصويت له أكثر من 95% .
اسكندرون «إلزاس ولورين» الشرق!
تعود جذور سلخ اللواء وتسليمه إلى تركيا إلى الانتداب الفرنسي الذي سارع إلى الردّ على مقرّرات المؤتمر السوري الذي انعقد في 2 ـ 7 ـ 1919، وأكّد الاستقلال السياسي العام لدولة سورية الجغرافية بحدودها الطبيعيّة المعروفة، كما شدّد المؤتمر على رفض حق الانتداب لفرنسا على أيّ جزء من سورية ورفض «طلب الصهيونيّين إقامة وطن لهم في سورية الجنوبيّة». من جهةٍ أخرى، كان السلوك الفرنسي أيضاً محاولة لاستمالة الموقف التركي آنذاك ضدّ ألمانيا النازيّة، ورغبة في إغراء الدولة التركية بعدم مجابهة الدول الأوروبية المتصارعة مع النازيّة الألمانية، لذلك وافقت فرنسا على استقطاع لواء اسكندرون السوري الذي يضمّ مدينتي اسكندرون وإنطاكية إلى تركيا، وذلك بعد إعلان نظام الانتداب على سورية بعد سقوط الحكومة الفيصلية، في 24 تموز العام 1920، إثر معركة ميسلون المشهورة واستشهاد يوسف العظمة.
وجاء تخلّي فرنسا عن اللواء لقاء امتيازات اقتصادية وثقافية، منتهكاً لأحكام صكّ الانتداب وشرعة عصبة الأمم التي كانت قد عهدت إلى فرنسا في 25 نيسان العام 1920، بنظام الانتداب على سورية ولبنان بما في ذلك كيليكيا ولواء اسكندرون ومعظم الولايات الأخرى، كولايات سعرت وعينتاب وأورفة وديار بكر ومعمورة العزيز وماردين وغيرها.
وشاءت سياسة الانتداب الفرنسيّة أن تبتكر الأسباب والأساليب لتمزيق شمل البلاد السورية. وكان من مهازل القدر أنّ هذه المسألة أعادت إلى الأذهان مأساة تماثلها وقعت في فرنسا بعد الحرب «السبعينيّة»، وهي مأساة «الإلزاس واللورين»، فلواء اسكندرون هو «إلزاس ولورين» الشرق الأدنى، ومن المعيب أن تكون هذه المأساة قد تمّت على يد فرنسا نفسها، التي ظلّت أربعين سنة تبكي وتستبكي العالم على مقاطعة من مقاطعاتها انتزعتها ألمانيا منها انتزاعاً!
«كونفيديراسيون» شامي ـ لبناني ـ لوائي
بعد انتقال النزاع على مصير اللواء في خريف 1936 إلى الحقل الدولي، على إثر المفاوضات التي جرت بين سورية «الطامحة إلى ممارسة حقها الطبيعي في الاستقلال»، وبين فرنسا «التي توخّت عقد معاهدة تُنهي عهد انتدابها على سورية وتحدّد العلاقات بين البلدين بشكل يؤمّن مصالحها الثقافية والاقتصادية في بلاد المشرق». في هذا الوقت أعلن المندوب التركي 26 أيلول 1936 في مجلس جمعية الأمم «مبلغ ما تعلّقه تركيا على هذه الاتفاقات من أهمية، إذ هي تشمل منطقة اسكندرون وإنطاكية التي تسكنها كثرة تركية»، وأنّ «السيد رشد آراس، «وزير الخارجية» يودّ أن يعتقد أنّ الحكومة الفرنسية لن تُحجم عن منح هذه المنطقة معاهدة تخوّل سكّانها أمر إدارة شؤونهم».
إلّا أنّ الحكومة التركية لم تكتفِ بذلك، بل بعثت بمذكّرة إلى فرنسا في 9 تشرين الأول 1936، تقول فيها بأنّ الاستقلال الممنوح لسورية ولبنان بعد الوصاية التي فرضت عليهما، يجب أن يُعترف به للاسكندرونة بعد الاستقلال الذي ارتُضي لهذه المنطقة وتمتّعت به زمناً.
وأبرق وزير الخارجية التركية في 8 كانون الأول 1936 إلى عصبة الأمم يخبرها بأنّ هناك نزاعاً بين تركيا وفرنسا يتعلّق بلواء اسكندرون، وفي مذكّرتها المؤرخّة في التاسع منه، تحيط تركيا الحكومة الفرنسية علماً، «بأنّ الحوادث المثيرة في اللواء» استدعت رفع القضية إلى مجلس عصبة الأمم.
وفي الفترة التي تقع بين 21 كانون الأول 1936 و21 كانون الثاني 1937 جرت في باريس مفاوضات بين وزير خارجية فرنسا ووزير خارجية تركيا، الذي اقترح لحلّ قضيّة اللواء إنشاء اتحاد «كونفيديراسيون» يتألّف من الدول الثلاث سورية، لبنان ولواء إسكندرن. على أن تبقى لكلّ دولة في هذا الاتحاد سيادتها الخاصة، مع الاشتراك في التمثيل الخارجي والنقد والجمارك على أن يُعتبر اللواء ضمن الاتحاد دولة محايدة غير مسلّحة. ويكون شكل الحكم فيها جمهورياً، ولغتها الرسمية تركيّة! ولكن فرنسا وبلسان رئيس وزرائها ليون بلوم، تعرض وجوب البحث عن طريقة أخرى تأخذ بعين الاعتبار دور مجلس العصبة لتأييد أيّ اتفاق بينها وبين تركيا، على أن يهمل مشروع «الكونفيديراسيون» لأنّه غير عملي.
وقرّر مجلس العصبة إرسال بعثة محايدة إلى اللواء مهمّتها الإطّلاع على الوضع ومعرفة الحقائق لتمدّ بها المجلس عند الحاجة.
وسافرت البعثة إلى اللواء، وباشرت الاضطلاع بمهمّتها ابتداءً من 31 كانون الأول 1936، وكانت تتألّف من: هانس هولستا «نروجي»، الجنرال كارون «هولندي» وشارل واتنويل «سويسري».
الانتخابات وتداعياتها المزوّرة
أثارت اتفاقية جنيف التي دخلت موضع التنفيذ في 29 تشرين الثاني، موجة سخط في الأوساط الشعبية السورية في اللواء، الذين تساءلوا عن دور «الوصيّ الفرنسي» في هذا الاعتداء الخطر الذي لا يهدّد لواء اسكندرون فقط، بل الهلال السوري الخصيب بكامله، بعدما أصبحت حدوده الشمالية مكشوفة كليّاً.
في هذه الفترة دعت عصبة العمل القومي التي يقودها زكي الأرسوزي إلى الإضراب العام، وشلّت حركة العمل في اللواء كلّه، في حين حصلت اصطدامات دامية بين الشباب السوري من جهة والجنود الأتراك من جهةٍ ثانية، وتجلّى التضامن بين الجماعات السورية في أروع وأجمل مظاهره لما أغلق الأتراك أبواب الجامع الكبير في وجوه المصلّين العرب، فقدّم لهم الكاهن السوري نقولا الخوري مفتاح الكنيسة الأرثوذكسية فأقاموا فيها صلاتهم.
وتضامنت مع الإضراب العام المدن الشامية التي قامت فيها مظاهرات صاخبة تستنكر الاعتداد على سلامة الأراضي السورية. وفي هذا الوقت كان أعضاء البرلمان السوري يصوّتون بالإجماع، وهم وقوف، على الاقتراح التالي الذي سجّل في ضبط الجلسة «2 حزيران» ورفع إلى المراجع المختصّة في باريس وجنيف:
«إنّ أعضاء البرلمان السوري، بما فيه نوّاب لواء اسكندرون الذين يمثّلون منطقتهم تمثيلاً صحيحاً، يحدوهم تعلّقهم المتين بالميثاق الوطني والمادة الأولى من الدستور، التي تنصّ على أنّ سورية أمّة ذات سيادة لا يمكن التخلّي عن أيّ جزء من أراضيها، والمادة الثانية من الدستور نفسه التي تنصّ على أنّ سورية وحدة سياسيّة لا تتجزّأ.
هذا، ولمّا كانت المعاهدة الفرنسية السورية تُلزم فرنسا بالدفاع عن سلامة الأراضي السورية التي يشكّل لواء اسكندرون جزءاً من صلبها، يعلن هذا البرلمان أنّ كلّ محاولة ترمي إلى أن تنتزع من نطاق السيادة السورية أيّ جزء من الأراضي السورية، إنّما تشكّل خرقاً صريحاً للدستور الذي صدّقت عليه جمعية الأمم نفسها، وللمعاهدة التي لم يجفّ مدادها بعد» عن الترجمة الفرنسية .
في هذه الأثناء، جمع محافظ الاسكندرون محسن البرازي بعض الوجهاء من السوريّين، فقرأ عليهم نصّ اتفاقية جنيف، التي تمّ بموجبها إنزال العلم السوري الشامي ورفع العلم التركي، كما طالب بذلك «منمنجي أوغلو» وعلى إثر ذلك نظّم السوريّون في إنطاكية وباقي مدن اللواء اضطرابات ومظاهرات دامية ضمّت 30 ألف سوري اصطدمت مع رجال السلطة التركية ـ قابلها تظاهرة للأتراك ضمّت نحو 4 آلاف تركي، وقد أعطت المظاهرتان اللجنة الدولية لإجراء الانتخابات فكرة صحيحة عن وضع اللواء ومطالب الاستقلال المطلقة من قِبل أبنائه، شعر على إثرها الأتراك بالخيبة فضاعفوا عوامل الإغراء بالمال، ولما تحقّقوا من الفشل بعد ظهور نتائج التسجيل في منطقتي اسكندرون وقرق خان، عمدوا إلى إثارة جوّ من الإرهاب يمنع اللجنة الدولية من الاستمرار في القيام بمهمّتها، في الوقت الذي استقدموا فيه جماعات من أتراك الأناضول، بعد أن جهّز أكثرهم بهويّات تثبت ولادتهم في اللواء، وتخوّلهم حق التسجيل. وقد قدّر عدد هذه الجماعات بخمسة وعشرين ألفاً.
تقرير ساندلر
لا شكّ أنّ إزالة السيادة السورية عن لواء اسكندرون، وضعه تحت تقلّبات المصالح الأجنبية، كما جاء في تقرير ساندلر «الاسوجي» وسيط عصبة الأمم بين فرنسا وتركيا، في 14/12/36، الذي كان قد أوصى في تقريره الذي رفعه إلى مجلس عصبة الأمم في 27/1/1937، بمنح اللواء استقلاله التامّ في شؤونه الداخلية، وجعل اللغة التركية الرسمية الوحيدة، وأن يوضع اللواء تحت رقابة عصبة الأمم. وهذا ما يتناقض وموافقة فرنسا على قرارات مجلس العصبة في 21 كانون الثاني 1937، في دورته السادسة والتسعين، بأن يُمنح لواء اسكندرون نظاماً خاصّاً يجعل منه دولة مستقلة في إدارة شؤونها الداخلية، على أن تتولّى سورية إدارة شؤون اللواء الخارجية، إلّا أنّ رفض وكيل وزارة الخارجية التركية «نعمان منمنجي أوغلو» أيّ سيادة سورية على اللواء، ولو اسميّة، أنهت مهمّة لجنة مجلس العصبة التي أُرسلت إلى اللواء في 25 شباط 1937، لوضع «الأسُس الأولية لتثبيت نظام اللواء».
وفي 29/5/1937، تبنّى مجلس عصبة الأمم بناءً على تقرير ساندلر، والخطوط الرئيسيّة لاتفاقية اسكندرون أو اتفاقية جنيف كما عُرفت في اللواء بنصّها الكامل في أواخر آب 1938. ويشترك فيها اللواء مع سورية في التمثيل السياسي والنقد والجمارك، ويستقلّ مالياً وإدارياً. وتكون اللغة الرسمية فيه اللغة التركية تتلوها الفرنسية فالعربية، على أن تضمن تركيا وفرنسا سلامة الدولة الجديدة ضدّ أيّ اعتداء خارجي.
التعاون التركي ـ اليهودي
إذا كانت مسألة الحدود الشمالية قد شكّلت ذروة التآمر الاستعماري التركي ـ الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى في تخومنا الشمالية، فإنّ المسألة الفلسطينية، شكّلت هي أيضاً، ذروة التآمر اليهودي البريطاني، خصوصاً وأنّ المدّ الاستيطاني في فلسطين المحتلّة ما زال يهدّد وجودنا، الأمر الذي يؤكّد على أنّ الأدوار في كلتا المسألتين تتكامل في المخطّط والمصالح، لتشكّلا الارتباط الوثيق فيما بعد بين الحكومات التركية وزعماء اليهود في العالم في ما يخصّ مسألة حدودنا الشمالية.
ويُذكر أنّ مبعوث الوكالة اليهودية إلى تركيا «ناحوم فنلينسكي» مقرّه في القاهرة ، كان قد أجرى في آذار 1937، اتصالات مكثّفة مع عدد كبير من الشخصيات التركية المهمة والمؤثّرة، وفي طليعتها وزير الخارجية، وقد استمرّت هذه الاتصالات بين مدّ وجزر، على أهميتها السرية، حتى عام 1938، التي تُوجّت قبل ذلك بلقاء الياهو ابستين برئيس البعثة التركية في بريطانيا، خلال احتفالات التتويج التي جرت في لندن، في أيار 1937، الذي احتجّ فيه رئيس البعثة التركية لدى الياهو ابستين على عدم تجاوب اليهود بشكلٍ كافٍ وفعّال مع تركيا حول مسألة اسكندرون، مذكّراً أنّ الصحف الخاضعة للسيطرة اليهودية لم تساند دعم المطالب التركية في اللواء. إلّا أنّ ابستين طالب بتعاون مشترك في ما يختص بالمسألتين فلسطين واسكندرون ، ومذكّراً أنّ الأتراك يدركون مدى الخطر الذي يهدّد مصالحهم من قِبل سكان فلسطين ومحيطها، ولافتاً نظر الحكومة التركية إلى أنّه دحض بمذكّراته الاتهامات التي وُجّهت إلى اليهود، والقائلة إنّ البعثة اليهودية كانت معارضة للأتراك في مسألة اسكندرون، من خلال مقالات عدّة نُشرت في الصحف اليهودية، مؤكّداً أنّ جميع المواقف اليهودية كانت تؤيّد الموقف التركي بشأن اللواء والحدود الشمالية تأييداً كاملاً.
اللواء بين الكتلة…وسعاده
في ضوء هذا المناخ من احتدام الصراع الدولي في المنطقة، وخصوصاً على الهلال السوري الخصيب، شكّل تخاذل حكومة الكتلة الوطنية في سورية التي كان يقودها سعد الله الجابري وجميل مردم بك، حالة ضعف أمام سلطات الانتداب الفرنسي، وهو ما أشار إليه سعاده في مقاله «على المتوسط: الخطر التركي» قائلاً: إنّ ما ساعد تركيا على اغتنام هذه الفرصة «خلوّ سورية مدة طويلة من الزمن من المنظمات القومية والسياسية الحديثة… فتمكّنت من الحصول على الاتفاق الذي يجعل منطقة الاسكندرون ذات سيادة محلية منفصلة عن سورية وخاضعة لحماية كلتا الدولتين الفرنسية والتركية، ويخوّل حق استعمال مرفئها «إلى أقصى حدّ ممكن»، ولهذه العبارة الدبلوماسية مدلول عظيم الخطورة».
وعلى العكس تماماً من موقف «الكتلة الوطنية» وغيرها من الأحزاب الكثيرة في سورية ولبنان وفلسطين والعراق، كان موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي اتّخذ موقفاً شديداً جداً من هذه المسألة الحيوية، فوضع الزعيم مذكّرته الأولى الموجّهة إلى الجمعية الأمميّة والأمم الصديقة والمتمدّنة «يطلب فيها منع حصول إجحاف بحقوق سورية الواضحة، وسيادتها المطلقة على الاسكندرون التي هي جزء متمّم للوطن السوري». ولم يكتفِ سعاده بهذه المذكّرة، بل أعلن في خطاب له في صافيتا في كانون الأول 1936. عن «استعداد الحزب للدفاع عن الحدود المهدّدة»، وحدثت تشنّجات في طول البلاد وعرضها، وأخذت كتب التأييد تنهال على مركز الحزب السوري القومي الاجتماعي في بيروت. في هذه الفترة اشتدّت المناورات التركية الفرنسية، واجتمعت الحكومة التركية في «اسكيشهر» للنظر في مسألة اسكندرون، وابتدأت تصل إشاعات عن حشد قوات تركية على الحدود، فقدّم الزعيم في أوائل كانون الثاني 1937 مذكّرة ثانية إلى المفوّضية الفرنسية.
في هذه الأثناء، كانت الخطة الفرنسية ـ التركية قد تحوّلت إلى شكلٍ آخر، ممّا دفع الجمعية الأممية إلى إرسال لجنة زارت الاسكندرون ووضعت التقرير المعروف بـ «ساندلر»، الذي منح اللواء استقلالاً تامّاً في شؤونه الداخلية، ممّا أفقد السيادة السورية على الاسكندرون، فوضع سعاده مذكّرته الشهيرة إلى الحكومة الشامية في أواخر كانون الثاني 1937، يعنّفها على موقفها من المناورات الفرنسية التركية.
في ضوء هذا الواقع، خيّر سعاده الكتلة الوطنية بين «الواجب القومي والخيانة الصريحة»، وطالبها أن تكون متّفقة بشكلٍ سرّي مع الحزب السوري القومي الاجتماعي من أجل اتخاذ موقف حازم من مسألة اسكندرون قبل فوات الأوان، إلّا أنّ جواب رئيس الحكومة السورية جميل مردم كان مفاجئاً لسعاده عندما قال: «إنّ خسارة اسكندرون ليست خسارة تستحق كلّ هذا الاهتمام…» ولم تكتف حكومة «الكتلة» بهذا الموقف لرئيسها، بل أخذت تنتقل من موقف ضعيف إلى موقف أضعف، فصرّح مردم بك لمندوب جريدة «الطان» الفرنسية بقوله: «لقد انتهت قضية اسكندرون المؤسفة إلى حلّ ما كان يمكن أن يبدو للشعب السوري إلّا مجحفاً، ولكنّنا انحنينا أمام قرار الجمعية الأممية في سبيل مصلحة السلام والتعاون الانترنسيوني». هكذا جاء انحناء السيد مردم لقرار الجمعية حتى لو كان على حساب أرضه القومية، وهكذا كانت الخيانة ظاهرة في موقف رئيس الحكومة الذي رأى أنّه «ليس بين الأمّتين السورية والتركية أيّ عداء كما زعم البعض، إلّا أنّ هناك أموراً أوجبت سوء تفاهم…».
وكانت مسألة اللواء والحدود الشمالية من الامور التي اوجبت سوء التفاهم، حسب رأي مردم بك، في حين اعتبر سعاده ان «السوريين القوميين الاجتماعيين في لبنان وغير لبنان يعدون حدودهم الوطنية حدود سورية الجغرافية ويعتبرون كل اعتداء على الحدود اعتداء عليهم».
في المرحلة الراهنة لم تختفِ اسكندرون عن خارطة سورية التي ما زالت تحمل مرارة خسارتها للّواء السليب وخيانة الدولة المنتدبة لسورية، وهو ما أوضحه الرئيس الراحل حافظ الأسد في خطاب له عام 1982، قائلاً: «لقد كانت هنا في هذه المنطقة دولة موحّدة مزّقتها القوى الانتدابية فرنسا وبريطانيا ونحن ندفع اليوم النتائج… وأستطيع القول إنّ فرنسا عليها مسؤوليّة تاريخية بخصوص شعبنا في سورية».