بعض الاحترام للذاكرة العامة
د. ربيع الدبس
كانت لافتةً للقاصي والداني، الأصواتُ النشاز التي أصدَرَتها وسائل إعلامية مرئية ومقروءة، دأبَتْ في توقيت متزامن ومشبوه، على تشكيل أوركسترا حاولت عبثاً تصوير شخصيتين سياسيتين هما رياض الصلح وبشير الجميّل تصويراً أسطورياً هدفه طمْسُ الوجه الحقيقي الذي سطّره سلوك كليهما على صفحات تاريخ بلادنا الحديث. وفي المقابل يهدف السيناريو إلى اصطناع صورة جميلة افتراضية يجري فيها إسقاط لقب «بطل الاستقلال» على الأول، في حين تُستحلبُ الأحداث استنسابياً لتُسبغ على الثاني مواصفات «البطولة السيادية والاستقلالية». وهي، كما يؤكد الماضي والحاضر مثلما سيؤكد الغد لناظرِيه، بطولة وهمية غايتها السياسية، الإعلامية، السيكولوجية، الشعبوية، أن ترسم لحصان طروادة اللبناني صورة «المنقذ»، البريئة يداه من الاجتياح المعادي عام 1982 بكلّ مفاعيله التدميرية والخيانية والإجرامية تهيئةً وتغطيةً ومشاركة، والمُبرّأ مشروعُه السياسي الداخلي من دم الصدّيق الفلسطيني في مخيمات اللجوء، ودم الصدّيق اللبناني المغدور به في مجازر الصفرا وإهدن والمرفأ وعين الرمانة، تحت شعارات الضرورة العنصرية وتوحيد البندقية، المتناسلة في مواجهة «الغرباء».
أما رئيس حكومة لبنان الأسبق رياض الصلح، فقد تناسى مُبَجّلوه نظراءه المحتجزين في قلعة راشيا، وثقبوا الذاكرة الجماعية دونهم. والأدهى أنهم تناسوا بطل الاستقلال الطليعي في موقعة بشامون: الشهيد البار سعيد فخر الدين، لا لسبب سوى انتمائه المشَرّف الى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي علّمه أنّ معنى للحياة مستمدّ فقط من وقفة العزّ التي لا تدانيها وقفة أخرى.
ونحن نُحِيل الذين ما أتيح لهم بعد الاطّلاع على خفايا الأربعينات، أن يقرأوا الردّ الذي أعدّه الباحث بدر الحاج ثم نشرته جريدة «الأخبار» في عدديها بتاريخ 14 و 15 حزيران 2010 بعنوان «التاريخ كما يشتهيه أهل الفقيد» وهو ردّ موثق ومُفحِم على كتاب باتريك سيل بعنوان «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي». كما نُحِيلهم إلى مذكرات دايفيد بن غوريون، خصوصاً توثيقه للقاءاته السرية بالصلح في فنادق فرنسية.
أما كتاب لورا ايزينبرغ بعنوان «عدوّ عدوّي: الصلات الصهيونية اللبنانية 1900-1948» والذي صودر من الأسواق بعد نشره، معرّباً بقلم رضى سليمان عام 1997، فيفضح بالوثائق الثبوتية ما كان مستوراً من «الأحبار» المتلبننين: من «البطريرك» أنطوان عريضة الى «الاستقلالي» رياض الصلح، ومن «الأديب» توفيق عواد الى «المتبرّع» للوكالة اليهودية رشيد جنبلاط.
هذه كلمات مسؤولة ندرك جِدّيتها. لذلك نأمل أن يكون نشرها حافزاً للمراجع الرسمية ذات الصلاحية، أن تتقصّى المعلومات الواردة فيها لإجراء المقتضى ولو بعد هذه العقود، لأنّ الدول التي تحترم نفسها وترعى مواطنيها بالكرامة والولاء الوطني الصادق، وفق الأنظمة المعمول بها، تأبى إلا إنصاف التاريخ إدانةً أو تبرئة، وتطبيق القانون الذي عنوانه في موضوعنا هذا محاسبة مرتكبي جُرم التعامل مع العدو، بتهمة الخيانة العظمى، بدل الوقوف في موقع اللامبالاة أو الحياد السلبي في مسائل وطنية عليا لا تتحمّل معادلة غضّ النظر عن انتهاك القوانين بغضّ النظر عن ادّعاء البطولات الوهمية.
أما أنطون سعاده، الذي لا تحتاج قدوته الفكرية والنضالية والأخلاقية الى مَن يدافع عنها ببراهين عبقريته وشموخه، ولا إلى استحضار بوارق نهضته العقلانية الحداثية الريادية في وجه حفنة من الأبواق الرخيصة. حسْبُنا هنا التذكير براهنية مقولته المدوّية التي جاء فيها: «إنّ مأساة الحرية الكبرى ليست المحاكم ولا السجون… إنها أقلام العبودية في معارك الحرية».