مَن يصنع التاريخ

د. رائد المصري

ساد الصمت المطبق في المنطقة العربية باستثناء القلّة منهم وغاب العرب عن التّشييع في جنازة الزعيم الثوري الكوبي فيديل كاسترو. هنا لن أدخل في جدليّة الأفكار والعقائد ونجاحها وديمومتها وفي نظرة هؤلاء المشوّهين الذين أخذوا على عاتقهم مسيرة الخضوع والانهزام والتسليم المطلق بمنطق الرأسمال الغربي والمجبول بعفن التطرّف الديني وأفكاره الوهابية النفطية والغازية.

هي ثورة مستمرة إلى يومنا هذا منذ أكثر منذ ستين عاماً، حالة وصفية قلّ نظيرها، أن تبقى الثورة متوقِّدة كلّ هذه الفترة الزمنية تستحضر فنون كمالها وتستفيد من تجاربها وخصوصياتها الذاتية، وتواجه منظومات الغرب الاستعماري بما تيسّر من مقوِّمات العيش والكرامة والإنتاج.

أن تكون مناضلاً ثورياً حقيقياً يعني أنك تعرف طعْم ولذّة العيش وتعرف المعنى الحقيقي للحرية، بعكس ما يشيعه منظِّرو اليسار المشبوهين بأنّ صلب ومكمن الحرية هي في الرأسمال وحريته الفردية، ذلك أنّه في ظلِّ الرأسمال وأسلوب عيشه ومنطق إنتاجه تتحوّل إلى تابع له وتفقد حريتك وتصير عبداً للمال ولصاحبه وللرأسمال المتراكم بفعل الحريات غير المتوازنة التي فرضتها قوى الإنتاج.

هو أسلوبٌ بسيط للحياة في ظلّ الثورة الكوبية، بعيد عن رفاهية الاستهلاك اليومي المضْني والبذخ الفاخر، وبعيد عن أحياء الثراء الفاحش وكازينوهات القمار ومجمع النخب المالية التي فتحت الطريق أمام اجتياحات الرساميل الاستعمارية للسطو على مقدرات البلاد وتحويل أبنائها إلى هنود حمر يتطلّعون بعيونهم من دون أن يكون لهم القدرة على الفعل والصنع والإنتاج… هنا يكون لبنان بمثابة المثال الأبرز لهذه الظاهرة الفضائحية في النهب المنظم.

غاب العرب عن تشييع الثوري فيديل كاسترو، لكنّهم كانوا حاضرين بأطيافهم وأجسادهم في تشييع الرئيس الصهيوني شمعون بيريز… وتأكيداً… أنّه في اليوم العالمي للتضامن مع فلسطين تنتخب حركة فتح محمود عباس قائداً عاماً للحركة، بالإضافة لمنصبه رئيساً للسلطة… هذه السلطة التي أيّدت التصويت ضدّ المقاومة ثلاث مرات بأنّها إرهابية…

مجمل القول هو أنّ كاسترو كان آخر شخصية ثورية عالمية أحدثت انقلاباً في مفاهيم وبنى العلاقات المجتمعية مع الاستعمار ورأسماله المتوحِّش. لقد اتّخذ من معاناة الفلسطينيين وقضيتهم مثالاً ورمزاً واستفاد منهم في العزيمة والصّبر في مقارعة المحتلّ والمستعمر. بقي حرّر وانتصر، إلا بعض الهواة من الذين تعوّدوا الانكسار والانبطاح، لا يرون في الثورة الكوبية سوى الديكتاتورية والإيديولوجيا الشمولية والتي لم تنتهجها كوبا على الإطلاق.

لم يصنعِ العرب بعد كنموذج ورؤية استراتيجية بديلاً ثورياً، بعيداً عن التآمر الداخلي والاستزلام الخارجي للغرب، نعني به مشروعاً يشكِّل حالة إجماع شعبوية تعيد ترتيب الأولويات في صياغة مشروع موحّد استقلالي التوجّه والنزعة، كفاحي المسير والمنهج، سيادي القرار والجرأة، إلاّ بعض الحالات العربية النادرة التي تمّ تطويقها استعمارياً ودينياً وتكفيرياً، وهي ما زالت تنزف حتى كتابة هذه السطور. ولا ندري ما إذا كانت حالات الموروث الدينية السلفية ومجاميعها أو الموروثات القبلية والطوائفية التي لم تنسلخ بعد عن جلودهم هي السّبب في كلّ هذه المعاناة، فالشعوب لا تريد إسقاطات وعوارض ونظريات تفرض عليهم طرق العيش والإنتاج، بل تفاعلاً حقيقياً ضمن البيئة الجغرافية الواحدة والبيئة الاجتماعية الموحّدة التي تربطها عوامل التوحّد وتنامي نزعة الروح القومية، في تطور طبيعي ومنطقي لوسائل وقوى الإنتاج عبر مراحلها الطبيعية لتأمين انتقال متناغم من عملية تنموية بمفاعيل اقتصادية إلى أخرى بهدوء وإتقان.

فاعتماد سياسة ليبرالية متوحّشة لن تؤدّي بالعرب إلاّ إلى إفقار الناس، ومن ثم تسليمهم محبَطين يائسين للخطاب الديني والعنفي، الذي يضمّ أطيافاً متعدِّدة من التطرّف والمتنوّعة المشارب اجتماعياً وفكرياً، السلفية منها والجهادية وكذلك من التكفير والهجرة وحركات الإخوان، كلّ ذلك لن يؤدِّي بهم إلاّ تحويل البلاد إلى مقارّ للسلفيات الجهادية العالمية أو نحو الحروب الأهلية التي تنهار معها الدولة.

مَن يعرف المعنى بأنْ تدمَّر مدينة حلب السورية بهذا الشّكل الهمجي والوحشي، يدرك حقيقتها وواقعها. هذه المدينة الأولى عربياً وفي العالم الثالث في التطوير الصناعي والإنتاجي. ويدرك جيداً معها الحالة الأوروبية المأزومة باقتصادها وبتصديرها وكذلك للتركي العثماني الذي نهب مصانعها ونقلها إلى الداخل، ولما كانت تشكِّله الشهباء من عسْر للهضْم وللقبول في المنطقِ الإنتاجي للغرب الرأسمالي الصناعي والمعولم. ومَن يعرف كيف قصفت الطائرات الصهيونية عام 1999 مصانع الدواء في السودان بحجّة أنّها مصانع أسلحة تهرّب إلى فلسطين، يدرك جيداً كذلك المحاولة الجادّة للسودانيين الإفلات من قبضْة مافيات الدواء الغربية والأوروبية في بناء معامل أدوية وطنية بأسعار زهيدة تقدّم للمواطن الفقير والمعوز.

لا أحد يستطيع أنْ يصنع أو يبني التاريخ إلاّ إذا كان ثورياً مناضلاً، وهنا المفارقة. فالصمود والثّبات هما اللذان يصنعانه ويبنيانه ويجعلانك منتصراً وصانعاً لهما. فكلّ الانتصارات والحروب التي حقّقها المستبدّون وظلّام الشعوب والطّغاة لم يخطّوا في التاريخ حرفاً واحداً، فمن فعل هم الثوار وإراداتهم في الحياة في بناء مستقبل الأجيال منذ بدء التاريخ الى اليوم…

أستاذ في العلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى