أسامة محسن في «قبّعة لرأس مقطوع» … نبيّ يماهي نجيعَه ببديعِه!
طلال مرتضى
مَنْ ذا الذي وسَم كتابه السماحة وما أرضى، وفتح باب السرّ وما أخفى؟ ذاكَ الذي بيده ملاك الشعر، يمارس وإيّاه خطيئة الورق. وحين تحبل الدواوين يتبرّأ، يقول: «ما هو إلّا وحش يؤكل، استفاق من جوع الوطن لِيلتهم أبناءه».
أقرّ ملء إرادته أنه مارس دعاية الشعر، وأنّ قصيدته الحامل بملايين الأفكار، لم تزل بِكراً كما أنجبتها أمها للمرّة الأولى، بعد أن لقّحها رسولُ الرعد.
ذاك الذي صقل من وجعه قلائد بهاء، تنزّل عليه ملائكة الشعر من دون حساب، وحين يولِم حبر القصيدة يقول لها: «كوني… فَتكون»!
بعضٌ من نجيع، بعضُ بديع، بعضٌ من وجع تأتّى على هيئة صُوَر، حاكها الشاعر السوريّ أسامة محسن على نول يتّمه «قبّعة لرأس مقطوع»، نتاجٌ صادرٌ عن «دار النهضة العربية» البيروتية الأصيلة.
منذ العتبة الأعلى يقبض القارئ على أسّ الحكاية بدلالة العناوين، بذهاب الشاعر نحو حتف القصيدة. كيف لا؟ وهو الذي شرع أبواب دمها الداخلية، لتدور قصائده في دوّامة الضياع هي التي نامت في «دفتر سورية» بِهويّة «لاجئ» و«معتقَل»، توسّمت مطالعها بـ«الموت الرشيق».
وحين استباحت «أقبح الأمم» «جبلَ قاسيون»، قيل له عَلِّق لهفتك «لوحة سريالية على الجدار». ولا بأس أن تترك «الوصايا» قبل أن تنهي بـ«عليك السلام».
بهذه العناوين، فخّخ أسامة محسن ديوانه الموسوم بِـ«قبّعة لرأس مقطوع»، بعد أن كسر «قفص قزح» ـ ديوانه السابق ـ ليحرّر الصورة الشعرية ويجرّها نحو البديع، عبر تشكيلات اليوميّ للحرب السورية التي أثقلت أوزارها كاهل حبره كـ«لاجئ»:
لا يفهمون إلّا أنّي جائعٌ للطيران
وعلى برقِ عدساتهم
يُطعِمونني العصافير المعلّبة
وقد زخرفوها بحبرِ دمنا
«خِصّيصاً لِلّاجئين السوريين».
وهو «معتقل» أيضاً في سجون الاغتراب فقال:
أنا مثلكَ
أدخّن سرّاً
كلّ يومٍ علبةً من أصابع حبيبتي.
وأتلظّى اشتياقاً لطَبْخِ أمّي
كلّما فاح نعناعُ أصابعها من صحن الذاكرة.
تيقّن بأنّ: اليافطة على يمينه
ستنبّهني:
«تصبح غريباً بعد عدّة كيلومترات.
لذلك، كتب من دون الشعور بالذنب رسماً بالشعر على جدار خيبته:
والحبل يوم ولادتي
لم يكن سرّياً في نافذة أمّي
كان كخيط الشمس في السجن!
ظلّ يحفظ عن ظهر قلب مشهد كيف:
سيارة الإسعاف يغسلُ المطر كتفَيها
ولا تصل نظيفةً إلى المقبرة.
لا لشيء أو ضغينة، فقط هو يدفع ثمن انتمائه إلى أمّةٍ من «أقبح الأمم»:
أمّةٌ تحبّ الله
والله لا يغيّر قُبْحَ أمّةٍ حتّى تُغيّر ما فيها.
أمة:
تستورد من قاتليها مزيل التشنّجات
لتدهنَ أكتافَ مشيّعيها.
ببساطة، ما كان على أسامة محسن أن يدّعي الفضيلة ويتمنبر ليبثّ بيننا سمن «الوصايا» بقوله:
لا تنسَ وأنت تنظّف أسنانكَ من لحمِ أخيك
أنّ وجهكَ الذي غاب عن المرآة
كان أملُنا في استرداد فلسطين.
وهو العارف أنّ في سوريّته المثكولة:
صار الورد يحمل مسدّساً على خصره
ويزهر نهدَ مراهِقَةٍ بالقنابل
كتُبُ الدراسة متراسٌ بين مقاعد العِلم.
كان عليه فقط أن يوصي «بيروت»:
قولي لهُم:
هذا الصبيّ
يرى الشآم في عينَيّ
ويعشق السلام.
استطاع الشاعر محسن الذهاب بوجعه نحو بهائية القول البديع، وتلك فعالية تجترّ نزفاً لتكوّن قصيدة كامنة بوحدتها العضوية، تنفجر عند اكتمال معمارها الفنّي من دون التواري وراء المحسّنات، من خلال تيقّظ فكرتها ـ أصلها ـ لتكون متجاورة، أي كاسرةً للنمط السائد، ومتحاورةً ـ بمعنى التفاعل، والتناصّ ـ عبر اختزالٍ تجلّى في عمق معاني الصوَر، بمعنى تكثيف في ضبط الأفكار لتبيان دلالاتها التخيّلية حدّ تماهي الواقع الأليم بالبديع.
يوقَّع الديوان بين السادسة والثامنة من مساء السبت المقبل في جناح «دار النهضة العربية».