أخمدتْ حلب صوتَ الموتِ
آمنة بدر الدين الحلبي
كان يوماً مؤلماً، موجعاً، ترك بصماتٍ حزينة على روحي، حتى الأشجار شاركتني حزني ولا استراحَ جماحُ، حين أعلن المسلحون اقتحام حلب عنوة، اضطررت للمغادرة قسراً من شهباء الحب، وأرمان الحياة، بنهاية شهر آب من عام 2012 م.. كانت الطريق مزروعة بالشوك، وقذائف المسلحين تلفنا من كلّ حدب وصوب، والسيارة تنهب طريق الراموسة بسرعة البرق، والمتجه نحو المطار في الخامسة فجراً، والذي ما زال سالكاً بعض الشيء آنذاك.
سألتُ نفسي سأعود يوماً والأشجار تصغي إلى وقع الخُطى عند الإياب، أم ستكون أرض الشهباء صارتْ يباباً؟
أرض الحياة، وما سرح من فؤادها قدوداً حلبية تردُّ الروح، وتنعشُ القلبَ، وتغذّي مفاصل الجسد فيشتعل الحبُ شوقاً، ويرقصُ العشقُ هياماً، أرض البطولات وما سطّرت من نضالٍ أيام الاحتلال الفرنسي بمقاومة شريفة من ابراهيم هنانو حين جمع أثاث بيته وأحرقه معلناً بداية الثورة وقال جملته المشهورة: «لا أريد أثاثاً في بلدٍ مُسْتَعْمَر». واستعدّ لمقاومة كل جندي فرنسي على الأرض السورية، لتبقى سورية حرة أبيةـ وقاوم حتى آخر لحظة من حياته، ورفض تقسيم سورية الكبرى إلى خمس دويلات، وقد رثاه السياسي والدكتور منير العجلاني اخترت مطلعها حين قال: «عاش نقياً كالنار، ثابتاً كالطود، واسعاً كالبحر، ومات كما تموت الشمعة، التي تحترق لتضيء للناس، وتلتهب حتى تذوب».
مات «هنانو»، لكن لم تمُت المقاومة الشريفة، ونهض أبناء سورية الشرفاء لتحريرها من يد العصابات المجرمة وعلى رأسهم «جبهة النصرة» التابعة للقاعدة والتي تعتبرها أميركا، ومَنْ لفّ لفيفها، وساندها مادياً ومعنوياً ولوجستياً، المعارضة المعتدلةـ فهل المعارضة المعتدلة تستبيح دماء الأطفال والنساء على مدار الساعة والشوق لقتل المزيد؟
هل المعارضة المعتدلة تستعين بضباط «إسرائيليين» وغير «إسرائيليين» لقتل أبناء حلب ونهب بيوتهم، واستباحة دمائهم، وحرمانهم رغيف الخبز، ومنعهم من الخروج إلى الشطر الآخر من حلب، حيث الأمن والأمان بعدما فُتحت أمامهم الممرات الإنسانية، صبّوا جام غضبهم على كل من حاول الخروج ساعياً للأمان، وأصبح قيد الموت؟؟
إن كانت تلك المعارضة معتدلة فعلاً، فَلِمَ استباحت الأعراض وجعلت أهالي حلب دروعاً بشرية، وأعلن السيد المصون زكريا ملاحفجي، رئيس المكتب السياسي لتجمّع «فاستقم كما أمرت» الموجود في حلب، لـ»رويترز» أن الفصائل المسلحة بشرق حلب «لن تستسلم».
لم يستوعب دماغي تلك الـ «فاستقم»، فهل هم مستقيمون حقاً كما أمرهم الله ورسوله، حين قال: والله إنّ هدم الكعبة حجراً حجراً أهون عليّ من إراقة دم مؤمن واحد».
هل هم مستقيمون حين تجرّدوا من المحبة وقتلوا أهلهم بدم بارد حتى أصبحت حلب مدينة الشهداء يفوح منها عبق الموت ورائحة الحرائق، ويموج شفق الذكرى على أطلال كانت مسرحاً للشعر والأدب والموسيقى، حين اجتمعت أيادي المحبة، ونظَّمت أنشودة الحياة في أحلام عاشقيها ومحبيها.
تجرّدوا من الإنسانية حين كسروا مرساة الأمان، وحلّوا حبال الأمن، وحملوا سلاحهم في وجه إخوانهم ومن يخالفهم الرأي، وساروا في طريق الشيطان الرجيم، وتقاسموا معه أكباد الناس وقلوبهم.
اشتدَّ ظلمهم، وكبرت جرائمهم، وتنوّعت طرائق القتل لديهم، حتى أصبحوا يصوّرون حفلاتهم الشيطانية والمغمّسة بدماء الأبرياء، بعدسات هوليوودية صهيونية ضاربين عرض الحائط بكل القيم الإنسانية.
ليس غريباً علينا أفعال بني صهيون القذرة التي تستخدم عملاءها بلسان عربي لتحيك المؤامرات، وتقدم الاقتراحات، وتقوم بالغارات الليلية في سبيل أن تحصل على شبر واحد من الأراضي السورية، لكن أبطال سورية لن يدعوها تهنأ بذرة تراب واحدة، بل ستعيد ما اغتصبته بقوة السلاح، لأن «ما أُخذ بالقوة لا يُستردُ إلا بالقوة»، كما قال الراحل جمال عبد الناصر، رحمه الله.
رجال الله على الأرض ماضين محررين كل شبر منها، وإن أعلنت جماعة «فاستقم» بأنهم لن يتركوا المدينة ولن يستسلموا، وليس لديهم مشكلة مع «الممرات الإنسانية لخروج المدنيين».
يتماهون في الأكاذيب، أم يستعيرون لسان الصهاينة، وهذا ينطبق على ما قاله النبي جبران «دعِ العميان يقودون العميان إلى الحفرة، مملكتي ستكون حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة بمحبة، وباحترام لجمال الحياة».
القتلة لا يدركون معنى الجمال، ولا يعرفون طريق المحبة، لأنها كلمة من نور، ولا يملكون قلوباً رحيمة لأنهم تجرّدوا من الإنسانية، طالما سقتهم الصهيونية الحقد الدفين، ودرّبتهم على سفك الدماء وتشويه الحقائق، حتى عميت بصائرهم.
الحقائق أصبحت واضحة مثل شمس ساطعة من البيت الأبيض إلى الكرملين واللقاء في روما مع حزمة من المقترحات الصهيو ـ أميركية حول التسوية في حلب تختلف عن مناهج واشنطن وتنسجم مع المواقف التي يتمسك بها الجانب الروسي، يسعون فيها إلى طرح بنود شيطانية لتجنيب مسلحي تنظيم «جبهة النصرة» الضربات والذي يقود الفصائل المسلحة في الجزء الشرقي من حلب.
لكن حلب انتصرت وأخمدت صوت الموت حين استطاع أبطال الجيش السوري تحرير الأهالي من قبضة المجرمين. وهم ماضون في تحرير شرق مدينة حلب في حملة شرسة ستنتهي بهزيمة المسلحين.