حلب والموصل ترسمان بالدم حدود المشرق
د. وفيق إبراهيم
لم تنجح اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916، التي رسمت حدود الكيانات السياسية في المشرق العربي، في التعبير الدقيق عن الحدود التاريخية الحقيقية لهذه المنطقة. فخسرنا الإسكندرون وجواره وأعالي العراق نحو منابع نهر دجلة وفلسطين.. هذه ليست حدودنا «العاطفية» حسب التعبير الأردوغاني.. إنها حدودنا الفعلية التاريخية، التي استباحها سايكس الإنجليزي وبيكو الفرنسي وأتاتورك التركي والحركة الصهيونية مدعومة ببلفور البريطاني. ذلك ليس من قبيل المصادفة أن يتزامن تحرير حلب الشهباء مع أم الربيعين الموصل: أدوات التحرير متشابهة: جيشان وطنيان يمثلان كلّ التنوّع الاجتماعي الموجود في سورية والعراق. ويجسّدان هموم العسكريين الأبطال في البلدين الذين يجاهدون بالحدّ الأدنى من الإمكانات لاستعادة رمزين فائقي الأهمية على المستوى الاستراتيجي.
بالنسبة للجيش السوري، يكفي القول إنه يخوض معركة حلب بعد قتال ضارٍ ومستمرّ منذ 5 سنوات تورّطت فيه السعودية وتركيا و»إسرائيل» وعشرات آلاف الإرهابيين المدعومين بالسلاح والمال من الحلف الأطلسي والولايات المتحدة الأميركية.
استطاع هذا الحلف التدميري بالأساليب المذكورة وأبواقه الإعلامية، التأثير على التضامن الاجتماعي الداخلي محاولاً تصوير أحداث المشرق العربي، وكأنها بين كافر ومؤمن، أو بين أكثريات وأقليات. متناسياً أنّ دول العالم الإسلامي بما تحتويه من سنّة وشيعة وآخرين هي أكثر البلدان تخلّفاً في العالم وحكامها جميعهم من دون استثناء من السنّة. وهذا لا يحمِّل الإسلام وزر الحكام المتخلّفين المرتبطين بالغرب الأطلسي. وهذا هو سبب تخلّف العالم الإسلامي.
المؤسّسة الأهمّ التي صمدت وظلّت تعكس الإجماع السوري بأبعاده المناطقية والاجتماعية والطبقية هو الجيش السوري الذي لم ينكّس أعلامه يوماً، وهي بيارق بلاد الشام، مصرّاً على تمثيل كامل المنطقة ببسالته وشجاعة فرسانه.
لذلك عندما يتقدّم الجيش السوري فإنه يهاجم باسم كامل سورية من حدودها مع الجولان المحتلّ حتى حدودها مع الإسكندرون المحتلّ.
أما إصراره على تحرير الشهباء حلب، فله تبريرات عدة:
أولاً هي أرض سورية استباحها التكفيريون الغزاة بدعم تركي ـ خليجي عالمي.
ثانياً: هي العاصمة الاقتصادية لسورية وتحتوي على 4 ملايين نسمة.
ثالثاً: تشكّل حلب جزءاً محورياً وأساسياً من مشروع الغزو التركي، وما يسمّيه أردوغان الحدود العاطفية لتركيا.
رابعاً: وَضَعَ الخليج مستنداً إلى التأييد الغربي كامل إمكاناته التمويلية والتسليحية للسيطرة على حلب مُدخلاً إليها كل رعاع العالم وأوغاده.
خامساً: استعادة حلب لها أهمية استراتيجية، لأن تحريرها يُسقِط المشروع التركي ويقطع طريق العثمانيين إلى الداخل السوري.
وأخيراً إنّ إعادة الحياة إلى الشهباء لا تفسير لها إلا بإعلان تراجع التآمر الدولي على سورية وبالتالي على المشرق العربي.
بالنسبة إلى الموصل، يواصل الجيش العراقي انتصاراته في ثاني مدن العراق الكبرى مؤكداً بدوره تجسيده للوحدة الاجتماعية العراقية.
ولا بدّ من التذكير بأنّ مَن حاول تدمير هذه الوحدة هم الأميركيون، فمنذ اجتياحهم للعراق وهم يتكلمون عن ثلاثة مكوّنات عراقية: الكردي والسنّي والشيعي، متناسين أنّ العراقيين من أقدم شعوب العالم ويترابطون بعراقيتهم وعروبتهم… ومَنْ تابع السياسة الأميركية في العراق لاحظ مدى الإصرار الأميركي على تقسيم العراق وتقاسمه. وانتبه إلى تصريحات رجال الكونغرس الأميركي بمجلسيه الشيوخ والنواب التي لا تتحدث إلا عن أقاليم مقسّمة في العراق الجريح.
ولا بدّ من التذكير «ببعث صدام» الذي تعاون مع القوى التكفيرية لإنتاج حالة مذهبية وعرقية في العراق 1700 قتيل في مجزرة سبايكر على يد بعث صدام ولا يزال يُمارَس الدور نفسه بدعم «داعش» بشكل مباشر وعلى مستوى القيادة والتخطيط العسكريين وعمليات قتل المدنيين مجزرة الكرادة سقط فيها آلاف القتلى ولا يمكن تجاهل الدور التركي في دعم قوى التكفير في العراق وبعض القيادات السياسية المتواطئة النجيفيان الشقيقان والهاشمي وآخرون .
وكما أسهمت تركيا في تفجير سورية لعبت أيضاً على خط تفجير العراق، حتى وصلت إلى تسليح أقليات تركمانية سورية وعراقية.. ولم تحسب ما هو مستقبل هذه الأقليات وعلاقاتها بجوارها العربي. ما يكشف أنّ هموم أردوغان تتركز في طموحاته العثمانية فقط على حساب دماء التركمان.
وهكذا نجح الجيش العراقي في البقاء مؤسسة وطنية أساسية تعكس التنوّع الاجتماعي العراقي… وعلى الرغم من رداءة تسليحه والشحّ الأميركي في دعمه وتزويده بما يلزمه من معدات، يبلي الجيش العراقي بلاء حسناً في استعادة الموصل أمّ الربيعين على الرغم من الاستياء التركي والسعودي والمعاكسات الأميركية التي تختبئ خلف الشعارات والأقوال الإيجابية ظاهراً.
وهكذا يمكن الاستناج أنّ جيشين وطنيين يمثلان نحو 60 مليون مواطن في المشرق العربي ويشكلان التعدّد الموجود في بلديهما يقاتلان لإنجاز الأهداف نفسها، وهي قوى التكفير، ويصرّان على إنهاء المشروع العثماني في «حدود أردوغان الشاذة».
الهدف إذاً واحد، الأداة واحدة، وهي الجيوش الوطنية والاستراتيجية واحدة وهي إعادة تركيب المشرق العربي على نحو لا يخضع للتكفير الخليجي وللتآمر الغربي والشهية العثمانية.
لذلك وربما أكثر من أيّ وقت مضى، يطالب سكان بلاد الشام والعراق من جيشيهما التعاون إلى الحدود القصوى، لأنّ أعمالهما العسكرية الحالية تندرج في الإطار التاريخي الوطني. وقد نقول إنّ الجميع يطمح إلى تعاون عسكري بين سورية الأسد والعراق يصل إلى الحدّ الفدرالي… فمَن أقرب إلى الآخر مئات القوميات التي اجتمعت على الأرض الأميركية أم سكان العراق وسورية…؟ اسألوا التاريخ يخبركم أنّ الغرب يمنع هاتين الدولتين من التعاون الفدرالي والكونفدرالي، لأنه يعرف أنّ هذا سيؤدّي إلى إعادة تركيب مشرق عربي جديد بفوهات بنادق الجيشين السوري والعراقي.
فهل تكون معارك تحرير حلب والموصل هي المقدمة؟
بقي على شعوب الجزيرة أن تقول كلمتها وتقضي على هذه الممالك المتعفنة وإمارات التخلف لمصلحة إنتاج منطقة تشارك في بناء الإنسانية.