«بيروت 82: الحرب المنسية» المفارقة بين حجم الحقائق وحجم الاهتمام

معن بشّور

هناك مفارقة مرعبة بين حقائق الحرب «الإسرائيلية» اللبنانية الأولى 1982 وبين حجم الاهتمام الإعلامي والسياسي بها وهو ما يتطلب التعمقّ في دراسة أسباب هذا التجاهل والتناسي… وأحياناً التنصل منها، والتنكر لدروسها ومعانيها وأبرزها دور المقاومة في تحرير الأرض ودور الوحدة في انتصار المقاومة. بل أن هذه الحقائق ما زالت صالحة حتى اليوم لإعانتنا على فهم ما يجري حولنا فندرك نواحي قوتنا لتطويرها ونواحي ضعفنا لنتخلص منها.

أول الحقائق، إن الحرب «الإسرائيلية» – اللبنانية، وأبرز معالمها معركة بيروت 1982، كانت الحرب الأطول في صراعنا المستمر مع العدو، فلقد بدأت مع القصف الصهيوني على مدينة بيروت الرياضية في 4 حزيران 1982 ولم تتوقف إلاّ في 21 آب من العام ذاته مع بدء مغادرة مقاتلي الثورة الفلسطينية وجنود الجيش العربي السوري وضباطه مدينة بيروت، أي أنها حرب استمرت، ومعها حصار بيروت، براً وبحراً وجواً، على مدى 88 يوماً، لتبدأ منذ ذاك المقاومة الوطنية والإسلامية التي حررت العاصمة، كما حررت معظم الجنوب والجبل والبقاع الغربي.

وعلى رغم أن تلك الحرب كانت الأطول زمناً بين كل الحروب مع العدو «الإسرائيلي»، وعلى رغم أن العدو نفسه يطلق عليها اسم «الحرب الإسرائيلية اللبنانية الأولى» باعتبار أن الثانية وقعت عام 2006، إلاّ أن البعض، عن قصد أو غير قصد، يصّر على تسميتها «اجتياحاً» ليوحي وكأنها كانت حرباً عاصفة استمرت لأيام أو ربما لساعات وحققت أهدافها وانتهت، وهذا التوصيف لحرب 1982 ينطوي على مخاطر أبرزها التقليل من أهميتها وتصويرها مجرد حرب عابرة، فيما هي حرب أسست وبالمقاييس الموضوعية لكثير من المراحل اللاحقة في لبنان وفلسطين وسورية والعراق وغيرها من دول المنطقة.

ثاني هذه الحقائق، إنّ عدونا قد حشد لهذه الحرب المنسية من الجيوش والسلاح والعتاد ضعف ما حشده في العديد من الحروب الأخرى، مئة ألف جندي و 1200 آلية عسكرية ومئات الطلعات الجوية ، وإنه خسر في هذه الحرب واحداً من أكبر جنرالاته يكوتئيل آدم، نائب رئيس الأركان، والآلاف من جنوده مما دفع بالجنرال آلي حيفا قائد اللواء المدرع إلى الاستقالة رافضاً احتلال العاصمة بيروت لما يتسبب ذلك من تكاليف بشرية باهظة.

ثالث هذه الحقائق، أن عدد شهداء هذه الحرب من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين، ومعظمهم من المدنيين، قد بلغ أكثر من 15 ألف شهيداً، بحسب الإحصاءات الرسمية اللبنانية من دون أن نحَسب شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا وعددهم لا يقل عن ثلاثة الآلاف وهو ما يجعلها من أكثر الحروب مع العدو من حيث كلفتها البشرية الباهظة.

لا بل تقول إحصاءات نشرتها جريدة «النهار» إن عدد القتلى من المدنيين والعسكريين اللبنانيين قد بلغ 17825، يضاف إليهم 2000 سوري، فيما خسر العدو فيها 650 عسكرياً و6 أسرى بادلتهم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في ما بعد بجميع الأسرى في معتقل أنصار وعددهم خمسة آلاف.

رابع هذه الحقائق، أن تلك الحرب بكل المكونات المشاركة فيها كانت حرباً عربية قومية شاملة، فلقد شارك فيها وبكل بسالة مقاتلو الحركة الوطنية والشعبية اللبنانية، ورجال المقاومة الفلسطينية، وأبطال الجيش العربي السوري، ومتطوعون مصريون وعراقيون ويمنيون ومغاربة وجزائريون وتونسيون وخليجيون بالإضافة إلى متطوعين من أحرار العالم، فكانت بيروت ساحة قتال جامعة لكل مكونات الأمة والإقليم والعالم.

يومها كان المتطوعون يتداعون لمواجهة أعداء الأمة وللجهاد في سبيل القدس ومقدساتها لا لقتل أبناء الأمة تحت شتى المبررات والأعذار.

خامس هذه الحقائق، كانت تلك الحرب، بكل المكونات المشاركة فيها، حرباً لبنانية وطنية حيث حملت السلاح جنباً إلى جنب كل أحزاب الحركة الوطنية وتجمعات القوى الشعبية وجيش لبنان العربي، وكان العروبي ناصرياً أو بعثياً أو قومياً يقاتل إلى جانب الشيوعي والسوري القومي والإسلامي كحركة أمل واتحاد الطلاب المسلمين، وكان مواطنون بسطاء من كل المشارب والبيئات جزءاً لا يتجزأ من تلك المعركة، ويشكّلون بيئة حاضنة للمقاومة المظفرة.

سادس هذه الحقائق، لقد أسست تلك الحرب عام 1982 لانطلاق المقاومة الوطنية فالإسلامية التي باتت بشهادة العدو قبل الصديق، أحد أبرز ظواهر العقود الثلاث الماضية، وساهمت، ولا تزال، في تغيير معادلات في الصراع والمنطقة في آن.

وإذ تُعتبر جذور المقاومة عميقة في التربة الشعبية اللبنانية منذ أواخر الستينات حيث كان للبعثيين والشيوعيين مبادراتهم الرائدة في صمود الجنوب والدفاع عنه في معارك محدودة في حجمها كبيرة في تفاعلاتها، شبعا، الطيبة، كفركلا، وغيرها ، فإن المقاومة الإسلامية التي ولدت براعمها في تلك الحرب 1982 تحولت مع الأيام إلى ما تحولت عليه من مصدر قلق وخوف غير مسبوق لدى العدو الصهيوني.

سابع الحقائق، كشفت تلك الحرب، ولا سيما معركة بيروت، حجم التواطؤ والصمت الرسمي العربي، وحجم التقصير الشعبي العربي حيث كانت أنظار الكثيرين من العرب مشدودة إلى مونديال كرة القدم بعيداً عما يجري في لبنان. تماماً كما كشف التوغل الصهيوني في شوارع العاصمة صبيحة 14 أيلول 1982 حجم التواطؤ الدولي والتنصل من اتفاقات عقدها المبعوث الأميركي آنذاك فيليب حبيب ومساعده موريس درايبر، لتنظيم خروج القوات الفلسطينية والسورية من بيروت مقابل إرسال قوات متعددة الجنسية لحماية المخيمات، فإذا بهذه القوات تنسحب قبل ساعات من اغتيال بشير الجميل في 3/9/1982، لتدخل في اليوم التالي القوات الصهيونية إلى بيروت وسط إنكار درايبر المتكرر لرئيس الوزراء آنذاك الراحل شفيق الوزان الذي زاره فجر ذلك اليوم على رأس وفد بيروتي الأستاذ بشارة مرهج وعدنان عيتاني وفؤاد الحلبي لإبلاغه عن التوغل الصهيوني في العاصمة، فكان درايبر يصّر للوزان مراراً على أن تحركات الجيش الصهيوني هي مجرد إعادة تموضع ولا تنطوي على أي عملية عسكرية ضد العاصمة، فكان القرار يومها «إن العار ليس في أن تدخل قوات العدو عاصمتنا ولكن العار كل العار أن لا تجد فيها من يطلق الرصاص عليها». وهكذا كان فانطلقت الرصاصات الأولى من حي الفاكهاني في الطريق الجديدة وكان أول شهيدين من بيروت من أبناء الطريق الجديدة محمد الصيداني وعصام اليسير اللذين أعلنا بالدم شهادة انطلاق المقاومة الوطنية من قلب عاصمة الوطن.

أما المخيمات التي يفترض بالاتفاق الدولي حمايتها عبر قوات متعددة الجنسية فقد وجدت نفسها في اليومين التاليين لاحتلال العاصمة ذبيحة وحشية الصهاينة وعملائها في واحدة من أكبر مجازر العصر التي لو جرت محاكمة مرتكبيها، لما كان مجرمو الحرب في الكيان الصهيوني يكررون مجازرهم وآخرها مجازر غزة الوحشية.

فكما لم يستطع ما يسمى «بالمجتمع الدولي» على مدى 22 عاماً تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425 الصادر في آذار 1978 بسحب قوات العدو المحتلة من جنوب الليطاني، فان كل الاتفاقيات والوعود لم تحم الشعب الفلسطيني ومعه مئات اللبنانيين والسوريين والمصريين في مخيمي صبرا وشاتيلا من مجزرة رهيبة، بما يؤكد أن لا شيء يحمي الشعوب والأوطان إلاّ الاعتماد على ذاتها وسلاحها ووحدتها.

لقد انتهى ذلك الفصل من الحرب الصهيونية المستمرة على أمتنا بخدعة دولية تماماً مثلما بدأ بخدعة يوم «طمأنت» واشنطن وحلفاؤها الأقربون والأبعاد كلاً من الحكومتين اللبنانية والسورية ومعهما قيادة منظمة التحرير بأن الحرب «الإسرائيلية» لن تتجاوز حدود نهر الأولي وأن هدفها هو إبعاد المستعمرات الشمالية عن مدى الصواريخ الفلسطينية، وكأن هناك عملية عسكرية عدوانية يمكن السكوت عنها وأخرى لا يجوز السكوت عليها.

وأذكر يومها أنه حين لقائي بالرئيس الشهيد ياسر عرفات صبيحة الأحد في 6/6/1982 في إحدى مقراته السرية، وكان قد عاد للتو من الرياض بعد أن قطع زيارته مع أخبار العدوان، كيف أن أبو عمار كان يؤكد لي، ولكل من التقاه، أن حدود العملية «الإسرائيلية» لن يتعدى نهر الأولي، وهو ما كان مخالفاً لتقديرنا آنذاك، فقد كنا نعتقد إن العدو سيصل إلى العاصمة وسيسعى إلى تغيير المعادلة السياسية فيها، وهكذا كان.

الحقيقة الثامنة: لم تكن حرب 1982 مجرد صمود عسكري وسياسي فحسب، بل كانت تمثل مشهد صمود اجتماعي رائع امتد على مدى أشهر ثلاثة حُرِمَ فيه أهل بيروت من الماء والكهرباء والطعام في أغلبه، وكان عليهم أن يتدبروا أمرهم بالوسائل المتيسرة فيما كان العدو يمنّي النفس بلحظة يرفع فيها أهل بيروت الأعلام البيضاء ويخرجون في مسيرات ضد المدافعين عن وجود الأمة من خلال معركة بيروت.

صحيح أن العديد من السكان اضطر لمغادرة العاصمة تحت وطأة القصف الهمجي الذي وصل إلى حد تدمير أبنية بكاملها على رؤوس سكانها بل تحت وطأة حصار تمويني خانق، فيما على بعد أمتار شرق المتحف أو المرفأ أو المحاور الأخرى كان يتوافر كل شيء، لكن الذين صمدوا في بيروت، مقاتلين ومواطنين، قدموا ملحمة في التكيف مع ظروف مستحيلة، حتى إذا ما أطل «الجنرال رمضان» على بيروت والحرب فيها على أشدّها تحولت فرحة الصائم يومها إلى فرحتين كما قلت في مقال آنذاك فرحة بيوم من الصيام وبيوم من الصمود معاً.

وبالمقابل كان احتضان بقية اللبنانيين لأشقائهم دليلاً على الوحدة العميقة بين أبناء الشعب اللبناني، خصوصاً أن رفض العدوان على العاصمة لم يقتصر على فئة من اللبنانيين بل شمل غالبيتهم التي كانت تعبر عن رفضها له بأشكال مختلفة وهو ما أسس لوحدة شعبية لبنانية حقيقية أرعبت الصهاينة، فخططوا لاستخدام فريق لبناني في مجزرة صبرا وشاتيلا ومن ثم لإشعال حرب الجبل، ولتحريك كل النعرات الطائفية والمذهبية المستمرة والمتفاقمة حتى الساعة، وهو ما أسميناه يومها «بالعصر الإسرائيلي» الذي أراد العدو إدخال لبنان فيه بعد اضطراره للخروج منه مدحوراً.

في تلك اللوحة الاجتماعية الإنسانية الرائعة، كان الأمن الجماعي والفردي مستتباً، فلم يسجل طيلة الأشهر الثلاثة إلا العدد المحدود جداً من التجاوزات، على رغم أن كل شيء كان مباحاً حيث لا سلطة قانونية تحاسب، وكنا نقول يومها في الحروب يهرب اللصوص، وبعد أن يحل السلام يزحفون لسرقة الناس ونهب ثرواتهم بالجملة والمفرق.

بل في لوحة الصمود الاجتماعي، التي باتت تتكرر في أكثر من مدينة تواجه حصاراً، كنت ترى كتائب العمل التطوعي والاجتماعي والصحي والتمويني والإسعافي والإنمائي تعمل جنباً إلى جنب مع كتائب المقاومة اللبنانية الفلسطينية المشتركة والجيش العربي السوري، بل أحياناً لم تكن ترى في الشوارع سوى سيارات الإسعاف لجمعيات الدفاع المدني، ولم تكن تسمع إلى جانب أزيز الرصاص سوى صفارات الإنذار وهي تنقل جثة من هنا، وتسعف جريحاً من هناك، وتطفئ حريقاً في بناء لم ينج من الحريق الكبير، وأحياناً تصاب إحداها بقذيفة صهيونية فيستشهد المتطوع أو المسعف ليهرع رفاق له لنقله إلى أحد المستشفيات الميدانية القريبة التي امتلأت بها أحياء العاصمة، كما امتلأت تلك بأطباء وممرضين متطوعين صمدوا في غرف عملياتهم كما يصمد أشجع المقاتلين في خنادقهم.

وفي الشارع أيضاً في تلك الحرب، كنت ترى هيئات الإغاثة تتحرك من تجمع للمهجرين داخل العاصمة وبين أحيائها إلى تجمع آخر تحمل له الغذاء والدواء وكل ما يحتاجه.

في تلك الحرب المنسية أدرك الناس كيف يتقدم المجتمع بمنظماته التطوعية في زمن الحروب والأزمات ليملأ فراغاً تتركه الدولة وليعالج مشكلات الناس على أنواعها، طبية أو تموينية أو إنسانية، بما يعزز من وحدة الناس.

وعلى رغم أن هذا الجانب من تلك الحرب بقي هو الآخر منسياً إلى حد بعيد، لكنه أسس في ما بعد لظاهرة المنظمات والجمعيات الأهلية، والتي اتكأ إليها المجتمع اللبناني في الأزمات الدامية التي واجهها بعد عام 1982، وربما حتى الآن، مع الإشارة إلى أن هناك على ما يبدو مخططاً لإغراق الجمعيات الناشطة فعلاً بجمعيات وهمية أو دكاكين، تسيء للعمل الاجتماعي، كما تسيء دكاكين السياسة للعمل السياسي، وتتمكن بشطارة وسائلها، وتواطؤ بعض المسؤولين معها، أن تنهب ما تيسر من موارد مخصصة لمثل هذه الجمعيات.

الحقيقة التاسعة لم يكن في حرب 1982، وسائط الاتصال التي تضج بها حياتنا هذه الأيام، فلا مواقع التواصل الاجتماعي على أنواعها كانت موجودة، ولا حتى خدمة الخبر العاجل، أو الفاكس، أو الانترنت وغيرها، كان الاتكال فقط على من صمد من الصحف كـ»السفير»، كل صباح، على رغم تعذّر حصول المحررين على الأخبار بالسرعة المطلوبة، وكان الاعتماد على من صمد من الإذاعات المحلية صوت لبنان العربي و صوت فلسطين ما تيسر من الأخبار، وكانت الأيادي تتناقل نشرات مطبوعة على «الستانسل» «كالثبات» و»المعركة» و «رصيف81» بالإضافة إلى «صوت الشغيلة» وكانت أكثر من نشرة وأقل من صحيفة وقد استشهد بعض كتّاب تلك النشرات وهم يوزعونها، على المواقع القتالية والخنادق وكانت تحمل من التوجيهات والنداءات التعبوية أكثر مما تحمل من الأخبار، بالإضافة إلى جرائد حائط كان يكتبها صامدون على جدران المدينة بين كل قذيفة وقذيفة، وهدنة إنسانية وأخرى.

حال التلفزة لم يكن بأحسن من غيرها، فالتلفزيون الرسمي، وكان وحده موجوداً آنذاك، وربما هذه من حسنات تلك الأيام ولكنه كان يبث من شاشتين إحداهما «غربية» تبث من تلة الخياط، والأخرى «شرقية» تبث من الحازمية، وكل منهما متأثر بالأجواء المحيطة بهما فيما كان وزير الإعلام حينها الأستاذ ميشال اده يجهدُ نفسه بالتنقل بين مكتب وزارته في الحمرا ومنزله في بعبدا، لكي يحافظ على الحد الأدنى من الخطاب الوطني الجامع، إلى درجه أنه حرص من خلال حلقتين تلفزيونيتين ظهر بهما وهو يحذر من الخطر الصهيوني وبثت الحلقتان آنذاك من تلفزيون الحازمية فيما كانت دبابات العدو تحيط بالمحطة وترابط على مدخلها من كل جانب فيما اعتبر موقفاً شجاعاً بوجه الاحتلال من رجل اختار منذ فتوته مواجهة الفكر الصهيوني ودحض مقولاته.

كان الصامدون من الإعلاميين والمصورين الصحافيين، لبنانيين وفلسطينيين وأجانب في بيروت مفخرة شعبهم وأمتهم والعالم، ومن بينهم خرج في ما بعد بعض أشهر الإعلاميين العرب والعالميين، إذ يكفيهم أنهم خريجو حرب بيروت وصمودها وحصارها.

أما عاشر هذه الحقائق، وربما أهمها، هو أن العدو على رغم التفوق الكاسح في عديده وعتاده بقي متسمراً على أبواب العاصمة أكثر من شهرين ونصف من دون أن يستطيع التقدم على أي محور من محاور القتال سواء في المطار أو الأوزاعي أو الليلكي الحدث، وخصوصاً المتحف حيث بات معروفاً أنه بعد يوم كامل من القصف البري والجوي والبحري، لم يستطع التقدم على المحور سوى أمتار قليلة هي أقل من طول دبابة «الميركافا» التي كان يفاخر بها يومذاك. وما جرى من بطولات على ذلك المحور جرى أيضاً على المحاور الأخرى، كما في المناطق الأخرى كخلدة وقائد معركتها العقيد الشهيد عبد الله صيام والشقيف ومقاتلوها الذين توزعوا بين شهيد وجريح وأسير، ومعركة الأولي والمفقودين الستة فيها، ومخيمات عين الحلوة والمية ومية ومخيمات صور والرشيدية وبرج الشمالي والبص وقائدها الشهيد عزمي الصغير، وكمعركة بحمدون وعين دارة في الجبل، والسلطان يعقوب في البقاع الغربي حيث أوقف الجيش العربي السوري يومها تقدم قوات الاحتلال لقطع طريق بيروت دمشق.

وحين استطاع العدو استخدام خدعة دولية للتوغل في شوارع العاصمة، بعد انسحاب المقاتلين الفلسطينيين والجنود السوريين والمتطوعين العرب، واجه داخل العاصمة، وفي كل أحيائها بدءاً من الطريق الجديدة مقاومة ضارية، وعمليات بطولية، كما جرى في جسر سليم سلام وسبيرس والقنطاري وعين المريسة وكورنيش المزرعة والمنارة وتوجتها آنذاك عملية الويمبي وبطلها الشهيد خالد علوان، فاضطر العدو للاندحار بعد أيام وجنوده يصرخون بمكبرات الصوت: يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار علينا… إننا خارجون.

كان الانسحاب غير المشروط من ثاني عاصمة عربية محتلة بعد القدس، أول انتصار حقيقي للمقاومة على المحتل، وتأسيساً لمقاومة شملت كل أرض لبنانية محتلة حتى كان الاندحار الكبير لقوات الاحتلال في 25/5/2000، ومنذ ذلك الانتصار اللبناني والعربي والاندحار الصهيوني، دخل العدو عصر الهزائم ودخلت مقاومتنا العربية، لبنانية وفلسطينية وعراقية عصر الانتصارات. إذ سبقت الغارة الصهيونية على مفاعل تموز النووي في العراق الحرب على لبنان بسنة واحدة.

نعم كانت بيروت أول الانتصارات، وكانت المقاومة هي الطريق لهذه الانتصارات.

المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى