الصين… خارطة العالم الجديد
سماهر الخطيب
تتحدّد مكانة الدولة تبعاً لاتساع دائرة نفوذها خارج إطار حدودها، لذلك فإنّ أمن الدولة بمعنى ما هو تخطيط لسياستها في حدود عواملها الجغرافية وبذلك يكون الربط الوثيق بين أمن الدولة وما يتطلبه من تخطيط خارجي، تُضاف إلى ذلك القوة الذاتية للدولة والتي يحدّدها طول خطوط سواحلها وطبيعة موانئها، وقد أولت الولايات المتحدة الأميركية أهمية فائقة لحدودها البحرية ونشرت أساطيلها للسيطرة والتحكم بقلب العالم ما جعلها تتربع على رأس الهرم العالمي في الوقت الذي واجهها صعود الكتلة السوفييتية وأدى إلى ما عرف بالحرب الباردة ما بين القطبين حيث سعى كلّ منهما إلى التحكم بمنطقة القلب بحسب وصف ماكيندر الذي يقول: «من يحكم شرق أوروبا يهيمن على منطقة المركز ومن يحكم منطقة المركز يُهيمن على الجزيرة العالمية ومن يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على العالم بأسره»، وفي أوج التمدُّد السوفييتي في شرق أوروبا وآسيا بإيديولوجيته الشيوعية الاشتراكية تصدّت الولايات المتحدة لما اعتبرته التمدُّد الشيوعي من خلال تعزيز القوى الليبرالية التي تريد إنعاش رأس المال ووقف التحولات ذات الطابع الاشتراكي في تلك المنطقة وانتهى هذا الصدام مع انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي لتصبح الولايات المتحدة قطباً مهيمناً على العالم.
نشهد اليوم تعدُّداً لمراكز القوة وتداخل مراكز النفوذ حيث أصبحت أكثر دينامية مما كانت عليه سابقاً من خلال صعود دول عدة وبروزها كقوى إقليمية وعالمية ومنها الصين، اليابان، روسيا، الهند، وغيرها ولا ننسى بروز إيران كدولة محورية ذات الوزن الثقيل في المنطقة.
وبالرغم من اعتبار البعض أنّ الولايات المتحدة هي المهيمن والراعي الوحيد للتجارة البحرية في العالم والذي يفرض قوانينه عليها، فإنّ هذا لا يمنع من الإشارة إلى دور شركات ومصالح اقتصادية عملاقة في وقت أصبحت جميع الدول تتبع سياسة اقتصادية ليبرالية وهذا ما جعل الشركات تتنافس وتعقد الشراكات الدولية بحسب مصالحها وكسبها المحقق.
تتربع الولايات المتحدة رأس الهرم الرأسمالي المسيطر على التجارة البحرية وتسعى إلى عزل الصين وغيرها عن التجارة البحرية، لكنّ الصين ودول البريكس تتحرك لبناء طريق تجاري قاري وبحري تسيطر عليه ويكون بمأمن عن النفوذ الأميركي، وقد بادرت الصين برسم خارطة طريق فكرية وعلمية وتجارية لنظام عالمي جديد، ولتوجيه هذه السياسة الاقتصادية التنموية حدّدت الصين أهدافاً محدّدة وهي تعزيز التعاون الاقتصادي وتحسين سبل ربط الطرق وتشجيع التجارة والاستثمار وتسهيل تحويل العملات ودعم عمليات التبادل بين الشعوب بدافع إحياء طريق الحرير القديم في العالم المعاصر الذي تحكمه العولمة.
هذا الطريق لا يصل بين نقطتين على جانبي العالم وحسب إنما يمرّ بأسواق ودول وتجمُّعات سكانية ضخمة فيخدم هذه المناطق ويربط بعضها ببعض ويضع نشاطاً تجارياً على طوله ولأجل ذلك قامت الصين بكوكبة من الآليات في السنوات الأخيرة لتعظيم البعد الدولي للمبادرة فأنشأت بنك التنمية الجديد مع البلدان الأعضاء في مجموعة البريكس والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وهما المؤسستان اللتان ستستفيدان من الفائض المالي الهائل لدى الصين والذي يمكن استثماره بسهولة لتمويل تنفيذ برامج طريق الحرير وبالرغم من أنها قد لا تجد صعوبة كبيرة في تمويله لكنها ستواجه مقاومة سياسية، خاصة فيما يتعلق بالطريق البحري والذي يثير مخاوف جيوسياسية خاصة في اليابان والفيتنام والفيليبين وسنغافورة وهذه المخاوف جذورها تاريخية لما كان للصين من تأثير على تلك المنطقة، لكنّ هذا لا يعني أنّ الصين هي المستفيد الوحيد وهي تسعى إلى إيجاد سبل جديدة لنشر احتياطاتها الهائلة بل من الممكن أن يجتذب قدراً كبيراً من الاستثمارات للبلدان المشاركة.
ومن جملة آلياتها منظمة شنغهاي للتعاون وممر الصين-باكستان الاقتصادي وشبكة يوكسينا للسكك الحديدية التي مدتها الصين من تشونغ تشينغ إلى ألمانيا ومنها إلى موانئ شمال أوروبا وممرات للطاقة الجديدة والقديمة بين الصين وآسيا الوسطى.
هذه السكك العابرة للقارات هي جزء من نظرة استراتيجية تصوغها الصين لربط محيطها الآسيوي عبر شبكات من طرق المواصلات والشحن والتجارة لتكون أوتوستراداً يربط الشرق بالغرب وينبثق من الصين ويتمحور حولها وهذا تعبير جديد عن القوة الصينية التي تساهم في رسم خريطة جديدة للعالم وستصرف لتحقيق ذلك أكثر من 16 مليار دولار على البنية التحتية داخل الصين وهي تسعى إلى تنمية أقاليمها الداخلية كما تتسابق دول آسيا إلى الدخول في اتفاقيات التجارة التي توقع اليوم، كما تقوم بتحضير بناها التحتية من أجل استقبال السكك والطرقات وأنابيب النفط والغاز.
وفيما تتحضّر الدول لحجز مكان في الخريطة الجديدة للعالم نجد الخليج العربي خارج تلك الخريطة باستثناء باب المندب وهو ما يفسر تلك العاصفة الجنونية التي أثارتها السعودية في اليمن لتحكم السيطرة على باب المندب بعدما وجدت نفسها خارج خارطة العالم الجديدة، أما إيران فهي أحد أهم الممرات الرئيسية بين الصين وأوروبا، خاصة بعد ربط شبكة سكة حديدها مع تركيا ومشروعها الممر الشمالي الجنوبي بين روسيا وشمال أوروبا عبر القوقاز وأذربيجان وأرمينيا إلى الهند وجنوب آسيا وتطوير ميناء تشابهار بالقرب من الحدود مع باكستان وهكذا جعلت من أراضيها جسراً لا يمكن للدول والأقاليم في الشرق وفي الغرب والشمال والقارة الهندية حتى الاستغناء عنه، أضف إلى ذلك رفع العقوبات الاقتصادية بعد التوقيع على الملف النووي الإيراني وما سيتم على أراضيها من استثمارات وتبادلات تجارية.
وتوازيها في الأهمية والموقع لهذا المشروع في المنطقة تركيا كونها البوابة على أوروبا والاتحاد الأوربي وما تفعله تركيا في الشمال السوري ليس سوى محاولة منها للسيطرة على هذه المنطقة كونها إحدى المحطات الرئيسة على هذا الطريق وقرار توسيع قناة السويس لتصبح مفتوحة في الاتجاهين أعطى مصر أهمية أكثر من دول الخليج على هذه الخريطة.
إذاً لا يتعلق الأمر بنقل بضائع من النقطة ألف في الشرق إلى النقطة باء في الغرب والعكس، بل أكثر من ذلك تنمية المنطقة الواقعة ما بين النقطتين وهو ما تبنته الصين وحثت الدول عليه، خاصة دول المنطقة نظراً لموقعها الاستراتيجي كونها جزءاً من منطقة القلب.
وفي ظلّ هذه الاستراتيجية والخطة التجارية التنموية نجد الولايات المتحدة منشغلة بإشعال الحروب وفتيل الأزمات في معظم المناطق التي تسعى الصين إلى تنميتها من خلال مشروعها الاقتصادي والسياسي الذي ترى فيه أميركا خطراً على مصالحها القومية والاقتصادية وتهديداً لمركزها الرأسمالي المهيمن على المجتمع الدولي، بدءاً من منافستها تجارياً وانتهاء بزعزعة مكانتها الرأسهرمية وبالتالي كان لا بدّ من القيام بعمل مناهض أو مناوئ لردع تلك السياسة ولمجابهة ذلك المشروع قبل أن يتغلغل في عمق الاستراتيجية الدولية ولكن بإيديولوجية مختلفة عن احتواء الشيوعية فكان ذلك الستار الناري الذي أشعلت به المنطقة لإبعاد الدول وإشغالها بمشاكلها الداخلية بعيداً عن السياسات الخارجية وتطلعاتها.
فاليوم الإيديولوجية الليبرالية هي السائدة والمعتنقة من كلّ الدول، بما فيها الشيوعية سابقاً، والكلّ لديه الاقتصاد الحر المبني على أساس تنافسي والهيمنة أصبحت استراتيجية تنافسية أساسها اقتصادي بحيث يكون الأقوى اقتصادياً هو الأقوى سياسياً وهذه العلاقة متبادلة فمن يستطيع إضعاف الآخر اقتصادياً يضعفه بالتالي استراتيجياً وهذا ما تسعى إليه الصين لإضعاف الهيمنة والنفوذ الأميركيين في الوقت الذي نجد فيه الولايات المتحدة توظف كلّ إمكاناتها لمجابهة هذا التمدُّد الصيني وبسياستها «القوة الذكية» تضاعف المحاور الأخرى باستخدام التهديد واللين معاً للتأثير على الدول بدبلوماسيتها الظاهرة وقوتها العسكرية التي تلوح بها عند شعورها بالحاجة إليها للتأثير على الدول سعياً منها إلى احتواء الصين واحتواء نفوذها الذي بات يهدّد الوجود الأميركي المهيمن على الساحة الدولية.
ولكن هل ستنجح أميركا في المحافظة على مكانتها كإمبراطور البر والبحر كما وصفها ماكندر في الوقت الذي استغلت فيه الصين هذه الثغرة الجيوستراتيجية لمدّ نفوذها من خلال تنمية تتعطش لها معظم الدول بعد سلسلة طويلة من الحروب والتدخلات العسكرية الأميركية وحروبها بالوكالة والقيادة من الخلف في الكثير من المناطق التي تلوِّح الصين بتنميتها وتقديم الفرص لها؟ وهل يمكن أن تكون خطوات ترامب في الانسحاب من بعض الشراكات عبر الهادئ دافعاً للصين كي تتابع مشروعها بخطوات متسارعة؟ أم أنّ القادم إلى البيت الأبيض يتحضّر لمواجهة الصين؟