«إله التوحّش»… الكتاب وحده ليس سلاحاً والمكتبة ليست جيشاً!
بعد «نصوص متوحشة»، يبحث الكاتب علي الديري بناء الدولة السعودية الأولى. فمن منفاه في مدينة ويندسور الكندية، أصدر الناقد البحريني علي الديري كتاب «إله التوحّش: التكفير والسياسة الوهابية»، وهو مؤلَّف بحثيّ مكثّف يسعى إلى قراءة السياقَيْن السياسي والعقائدي لنصوص التكفير والتقتيل الوهابية في تجربة الدولة السعودية الأولى.
الكتاب صدر عن «مركز أوال للدراسات والتوثيق»، ودُشّن في جناح المركز في معرض بيروت الدولي للكتاب، يوم الخميس في الأول من كانون الأول 2016، وهو يأتي مكمّلاً لكتاب «نصوص متوحّشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية»، الذي صدر السنة الماضية للمؤلّف ذاته.
والديري، أكاديميّ وناقد بحرينيّ، اشتغل في حقل الخطابة والفلسفة واللغة والمجاز على مدى أكثر من عقد، وحاز على درجة الدكتوراه في تحليل الخطاب حول أطروحته «مجازات الفلاسفة: كيف يفكر في الفلاسفة؟». وأسقطت الجنسية البحرينية عن الديري بمرسوم ملكي في كانون الثاني 2015، لأسباب تتعلق بآرائه السياسية.
وعن كتابه «إله التوحّش» يقول:
يروي ابن بشر، مؤرّخ الدولة السعودية الأولى والدعوة الوهابية، حكاية ذات دلالة تتعلّق بسيرة تكون محمد بن عبد الوهاب قبل إعلان دعوته. تقول الحكاية: حين وصل إلى المدينة المنوّرة التقى بأستاذه الشيخ عبد الله آل سيف الذي غادر بلدة المجمعة القريبة من الرياض، ليستقر في المدينة المنورة. استقبله الشيخ، وأحب أن يوضح له أنّه أعدّ سلاحاً لنشر العلم والمعرفة في بلدته المجمعة التي تحكمها عائلته من آل سيف، فأخذه إلى مكتبته العامرة بالكتب، لربما كان قد لمس من حديثه مع تلميذه مَيل الأخير إلى استخدام العنف والغلظة في دعوته، فارتأى أن يعطيه درساً غير مباشر لاعتماد الكتاب سلاحاً في الدعوة.
حين دخل محمد بن عبد الوهاب مكتبة أستاذه، لم يكن بعد قد التقى بمحمد بن مسعود، شريكه في تأسيس الدولة السعودية الأولى 1744 1818 ، كان ما يزال محمد بن عبد الوهاب في مرحلة البحث عن قوّة سياسية تتبنّى دعوته. لم ترُق له أفكار مشايخه في نجد، ولا أساليب دعوتهم، ولا أسلحتهم في تغيير المجتمع.
على مستوى تفاصيل الحكاية الصغيرة، لم ينقل لنا ابن بشر ردّ محمد بن عبد الوهاب على قول أستاذه «هذا الذي أعددناه لها». لا نعرف ما إذا كان قد تبسّم في وجه أستاذه، أو ضحك ضحك ساخراً من سلاحه، أو جادله في صلاحية هذا السلاح، أو أبدى إعجابه بمكتبته.
لكن على مستوى الحكاية الكبرى، يخبرنا هذا المؤرّخ أنّ محمد بن عبد الوهاب راح يُعدّ القوة والمهاجرين والجيش والمجاهدين، فصاروا أسلحته التي غزا بها نجد كلّها وصولاً إلى بلدة المجمعة في العام 1769، بقيادة الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود، وخلال سنوات، أعلنت خضوعها وإيمانها بالدعوة.
هكذا إذاً، لم يقنع محمد بن عبد الوهاب بالمكتبة ولا بالكتب سلاحاً لدعوته، ولو كان قد اقتنع لظلّت الحكاية صغيرة، تتناقلها كتب التراجم والسيَر، لكنها كبُرت لترويها كتب التاريخ والملاحم، بل إنّها خطّت تاريخاً جديداً، أمْلَتْه على ابن بشر، فكان كتابه «عنوان المجد في تاريخ نجد».
ما عنوان هذا المجد؟
الرايات السوداء التي تحمل في وسطها «لا إله إلا الله» هي عنوان الحركة الجديدة، وهي ليست شيئاً آخر غير القوة والسلطة التي مثّلتها الدولة السعودية الأولى في الدرعية. فالراية علامة على هذه القوة، كان محمد بن عبد الوهاب يؤمن بالقوة، يؤمن بكتاب القوة لا قوة الكتاب، بمعنى أنّه يؤمن بالدعوة المدجّجة بالقوة التي تفرض على الناس معناها، ولا يؤمن بالدعوة المطلقة من القوّة التي تترك للناس أن يختاروا، أن يؤمنوا بها ولا يكترثوا لها.
كانت ثقته بالقوّة في تحقيق معنى التوحيد المتوحّش الذي دعا إليه تحت شعار «لا إله إلا الله» قد حسم الدعوة مبكراً، فصارت الدعوة دولة وسياسة وجيش وقوة وغزواً وحرباً وقتلاً. فالدعوة تأخذ صيغة العرض والإبلاغ والاختيار وإقامة الحجج والإقناع، وقد حسم محمد بن عبد الوهاب ذلك مبكراً، منذ وجد القوة المساندة للدعوة في اتفاق الدرعية 1744. حتى رسائله للقبائل والبلدات، ما كانت جزءاً من الدعوة، بل من القوة، أو لنقل كانت دعوة تحت تهديد السيف.
كان يريد أسلحة تدعم كتبه التي تبشّر بدعوته، الكتاب وحده ليس سلاحاً والمكتبة وحدها ليست جيشاً. أراد جيشاً يفرض كتبه ورسائله، أراد أسلحة تفرض حججه على الجميع ليؤمنوا بها، أراد مقصلة يفصل فيها الرؤوس بحسب إذعانها لإيمانه.
ما حدث في المجمعة حدث في العيينة وأشيقر والرياض ومنفوحة، وكل بلدات نجد. أعدّ لها الرايات السود، رايات التوحّش، لتُذعن وتستسلم فتؤمن. إنّه الإيمان المدعم بالقوة، قوة السيف لا قوة الحجة. كتاب القوة لا قوة الكتاب.
أحاول في هذا الكتاب، من خلال نصوص محمد بن عبد الوهاب، أن أبرهن على فرضيّتي المتعلّقة بنصوص التوحّش، وهي الفرضية التي تنصّ على أن التكفير مشروع قتله يُمليه صراع سياسي، التكفير هو تجريد الإنسان من إنسانيّته حرمة دمه، وماله، ونفسه، وعرضه وعقله لغاية سياسية. كنت قد اختبرت الفرضية في كتابي نصوص متوحّشة، في سياق السياسة السلجوقية في القرن الخامس الهجري، والسياسة الموحّدية في القرن السادس الهجري، والسياسة الشرعية عن ابن تيمية في القرن السابع والثامن الهجريّين، والتي لم تجد من يتبنّاها تبنّياً سياسيّاً بالكامل حتى اتفاق الدرعية 1744.
لقد وضعت ثلاثة شروط حسب هذه الفرضية، للنصوص التي أختارها للدراسة، وأطلق عليها صفة التوحّش نصوص متوحّشة : الشرط الأول أن يكون النص آمراً بالقتل المادي، وليس مكفّراً فقط للمسلم الذي يقرّ بالشهادتين. والشرط الثاني أن يكون النص فتوى أو حكماً منتجاً من فقيه ليس مجرّد حديث يروى . والشرط الثالث أن يكون النص ضمن فضاء سلطة سياسية تمثّل قوة قائمة بالفعل. ووضعت فترة زمنية لتحديد مجال العمل، فقد عملت على نصوص تقع ضمن الفترة الزمنية القروسطية، أو ما نسمّيه التراث بشكل عام، أو كان امتداداً مباشراً لهذه النصوص كما في حالة الوهابية.
لقد جاء اختياري لنصوص محمد بن عبد الوهاب، لأنّها تكفّر وتأمر بالقتل المادي وتمارسه على المسلم المقرّ بالشهادتين، وقد أنتج هذه النصوص فقيه في شكل أحكام وفتاوى، ضمن فضاء السلطة السياسية التي هي الدولة السعودية الأولى في الدرعية، وهي امتداد لنصوص التوحّش عند ابن تيمية في القرون الوسطى.
أدرك محمد بن عبد الوهاب، أنّه لا يمكن للمكتبة وحدها أن تحوّل نصّ التكفير إلى فعل قتل، فكفّر بها، وراح يبحث عن قوّة تجعل من خطابه وحشاً ضارياً في صحراء نجد. أراد أن يُنبت لنصوصه التكفيرية مخالب ضارية، فكان سيف الدرعية.
لقد صيغت وثيقة الدرعية على قاعدة «الدم بالدم والهدم بالهدم». وبذلك، فهي اتفاق على أنّ نصّ التوحيد ضمان لدم الدولة وضمان لدم الدعوة، وهدم أحدهما هدم للآخر. هي ضمان للتوحيد السياسي للدولة الخاضعة بالقوة لعقيدة إيمان موحّدة ومعَمّمة وغير قابلة لأيّ تأويل أو اختلاف، كما أنّها ضمان لبقاء الدعوة ظاهرة وقوية ومهابة وناطقة في مراسيم الحكم وألسن الناس.
وثيقة الدرعية هي تحالف بين رجل الدعوة ورجل الدولة، أو تحالف بين ما يمكن أن أسمّيه إله التوحّش وسيف الوحشية. إله التوحّش هو هذا الإله الذي خلقته سيرة رجل الدعوة بتنفسيرها الغريب لشهادة التوحيد، وتكوينها لجماعة الغرباء الذين يجدون رسالتهم في استثناء الآخرين من الحياة التكفير .
الكتاب باختزال ربما يكون مخلاً، هو سيرة صاحب الدعوة الفصل الأول . دعوة التفسير لشهادة الإسلام «لا إله إلا الله» الفصل الثاني الذي أسّس بهذا التفسير لفكرة غربة الإسلام بين المسلمين وصنع مجتمع الغرباء الفصل الثالث ، الذين يستثنون غالبية المسلمين من الإسلام الفصل الرابع .