قالت له
قالت له: تغرقني دائما بسيل النصائح والحِكم، وتدّعي أنك عليم بما لا أعلم، وسلاحك أنني أتسبّب بالجدل وأثير النكد والعتب، وأبحث عن صفة المظلوم بلا سبب. وأجاريك في ضعفي واعترافي ربما بحثاً عن رضاك، أو بفعل خوفي. وأقتنع أنني أتسبّب بضياع الأوقات الجميلة، ولا يبقى في الدفاع عن نفسي حِيلٌ ولا حيلة. ثم ها آنذا قرّرت المواجهة وبِيدي بدلاً الحجة حجتان: الأولى أنك تهرب من أسئلتي برفع سقف القضية كمن جاء يطلب موتي ويريد إقناعي أنني سأبقى حيّة، فلو كان احتجاجك بعد الجواب لسقطت من يدي الأسباب، أما أنك تتذكر رفض العتاب عندما يكون عندي سؤال وأسئلة، فتلك هي المشكلة. وحجتي الثانية أن الحبّ الذي لا نكدّ فيه لا حياة فيه. فهو كماء بارد وحبيب يجالس حبيباً وكلاهما شارد. فالذي تصفه بالنكد هو حرارة الحبّ والتمسّك وعلامة الجذب والتعلّق والبرود، لا حياة فيه بل نفاق مصالح وتملّق فقد تكون المصالح مجرّد تبادل تواصل الجسد. ولا طاقة للباحث هنا على خوض الجدال لأنه يقع عنده خارج نطاق السؤال، بينما في الحبّ العميق يتبادل العشّاق النقّ والنقيق، ويتصاخبان ثمّ يتصاحبان كرفيقة ورفيق. فالغضب والشكوى علامات اهتمام لكنهما بدايات لعبة الغرام.
فقال لها: أما وقد صار للمنطق عندك حجة القضية، فهاتي أسئلة الامتحان وبعد السين والجيم سوف أريكِ منطقك السقيم، وأكشف لك كيف تضيّعين الودّ الحميم، وتجعلين الشكّ أسلوبك الأنتيم بألف حجة وحجة، كأنه آلة لتجميع المشاعر. فاكسري القجّة وتعالي نلتقي على المفارق، ولا تلبسي ثوب شاعر.
فقالت: إليك السؤال الأول.
فقال: إن سقط السؤال بالضربة القاضية صار الأخير، أتقبلين؟
فقالت: قبلت.
فقال: اتفقنا.
فقالت: من هي تلك التي كانت معك على طاولة المطعم وكنتما تمسكان بأيدي بضعكما وتتبسمان؟
فقال: زميلتي وقد مات زوجها، وكان أخاً غالياً ومنحتها بعض الرفق والحنان.
فقالت: كان ممكناً أن نكون معاً إن كان هذا المراد.
فقال لها: وهل دعوتني عندما ذهبت مع زميلك تحضرين لترضينه بيع لوحاته في المزاد؟
فقالت: لأنه سيعتبر الأمر عدم ثقة.
فقال: ما دعوتك أيضاً لأنها ستعتبر دعوتي محبّة ملفّقة.
فقالت: واحدة بواحدة ولم يَصِر السؤال الأخير.
فقال: تؤجل الجلسة إلى وقت لاحق. لكنني سأقول لك الأصل من دون الملاحق. القضية بيننا هي الحرّية. فإما تباح لِكلينا مرفقة بالثقة، وإلا صارت الحرّية هرطقة واحد بزيت وواحد بسمن وواحد بحرّية وثقة والآخر عبودية مرهقة. فاختاري الميزان وتعالي نتحاكم بقانون واحد.
فتأملت وقالت: والله لا أبيع حرّيتي ولو كنت لا أعيطك ثقتي.
فقال: والله لا أرتضي عبوديتي ولو أنك أهل لثقتي.
فقالت: هكذا تحبّ المرأة أن تشعر بالتفوّق. فقد كسبت عليّ برضاي جولة ولك منّي الجائزة قبلة.
فأغمض عينيه لينالها، وتسمّر قبالتها، وبعد قليل فتح عينيه فكانت قد اختفت. ولما استدار والتفت، وجدها غارقة في ضحكة مارقة. فقال: وصفتك في التشويق مجدية أيتها السارقة، تعالي لضمة واحدة قبل أن نفترق.
فهمّت لضمّه وهي تشعر بالنصر مزهوّة، ويرنّ هاتفه وتحاول أخذه بالقوّة، ويركض ولا تراه، ويضحك بقهقهة ويقول: ما أجمل اتفاقنا على الحرّية. وهي تقول: لا داعي للتباهي، فقد رأيت اسم المتصل فلا تحاول إغاظتي. ولفت انتباهي فالأمر لا يحتمل. اللهم إلا أن الرقم مختلف… وإذا كنت غبية وأنت قمّة الدهاء، فقد وضعت أرقام صديقاتك تحت أسماء أخواتك بصورة وهمية.
فأجابها من بعيد: عائد لتَري وتصدّقي، فقد نجحت في انتزاع قبولي أن تحقّقي. وتعانقا مع ابتسامة دهاء متبادل… وكلّ يقول في سرّه: «غلبتني وفي مرّة ثانية سنتقابل»!