في الذكرى التاسعة والعشرين لانتفاضة الحجر

راسم عبيدات ـ القدس المحتلة

لم تكن انتفاضة الحجر- الانتفاضة الأولى – عابرة في سفر النضال الوطني الفلسطيني الممتدّ والمتواصل منذ بداية الغزوة الصهيونية الأولى لفلسطين وحتى يومنا هذا، حيث عوامل استدامته ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، وستبقى قائمة ما دام الاحتلال جاثماً على صدورنا ناهباً أرضنا ومتنكراً لحقوقنا ووجودنا. هذه الانتفاضة كانت محطة هامة من محطات النضال الوطني الفلسطيني، وادخلت الى قاموس نضال الشعوب مصطلح الانتفاضة، هذه الانتفاضة التي كانت السبب الأساس لتفجيرها مواجهة عنجهية وغطرسة الاحتلال، حيث صدمت إحدى شاحناته العسكرية في قطاع غزة في يوم 7/12/1987 مجموعة من العمال الفلسطينيين المتجهين الى أعمالهم في فلسطين المحتلة عام 48، ليسقط أربعة منهم شهداء والعديد من الجرحى وفي اليوم التالي، يوم 8/12/1987، انفجر بركان الغضب الفلسطيني من مخيم جباليا مسقط رأس العمال الشهداء، وليمتدّ لهيب الانتفاضة الشعبية من القطاع الى الضفة الغربية كلّها، وليتوحد

الكفاح والنضال والدم الفلسطيني على طول وعرض مساحات الوطن…

هذه الانتفاضة، وقبل التطرق الى ما يميّزها علينا القول، إنّ من أهمّ عوامل اندلاعها، هو الردّ على محاولة تهميش منظمة التحرير الفلسطينية والالتفاف على وحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني.

اندلعت الانتفاضة ولكن رغم أنّ شراراتها كانت عفوية، إلا انّ الفصائل استطاعت ان تلتقط اللحظة المناسبة، حيث عملت على تشكيل القيادة الوطنية الموحّدة للانتفاضة كهيئة أركان تقود الشارع الفلسطيني، تضع الخطط والبرامج وتحدد المطالب والهدف الناظم لها، وآليات التنفيذ، وتصدر توجيهاتها وتعليماتها للجماهير الفلسطينية في بيانات دورية للمهام المطلوب العمل على تنفيذها، وكيفية العمل على استدامتها وتطويرها، وتحدّد شعارها الناظم بالحرية والاستقلال، وتبقي على قنوات اتصال دائمة مع القيادة الفلسطينية في الخارج وبالتحديد في تونس، حيث إنّ القيادة الموحّدة كانت الذراع الكفاحي لمنظمة التحرير.

المشهد الانتفاضي اليومي لتلك الانتفاضة الشعبية، التي تميّزت بالزخم والحشد الشعبي الواسع المشارك في أنشطتها وفعالياتها، حيث مختلف الشرائح الاجتماعية شاركت فيها وتوحدت خلف قيادتها ومطالبها، طرق مسدودة بالحجارة والسواتر الترابية وشبان يتمترسون خلف إطارات مشتعلة جاهزون لرمي الحجارة والزجاجات الحارقة على جنود الاحتلال، سحب كثيفة من الدخان الأسود تغطي السماء، جامعات ومؤسسات تعليمية مغلقة، والحديث عن التعليم الشعبي البديل، الأعلام الفلسطينية مرفرفة تزيّن أعمدة الهاتف والكهرباء وتتزيّن بها الأسوار وجدران المنازل، والشعارات الوطنية والفصائلية تخط على الجدران من أجل استنهاض الجماهير ودعوتها لمواصلة الكفاح والنضال الشعبي، وتوجيه التحية لشبان الانتفاضة وتمجيد الشهداء والإشادة بصمود الأسرى الأبطال وتضحياتهم، بيانات قاوم في كلّ مكان، العودة للاقتصاد البيتي، نساء وفتيات يشاركن بفعالية في الانتفاضة، والأطر النسوية واللجان الشبابية تنشط في زيارة الجرحى وبيوت الشهداء، رائحة الدم والموت تنتشر في كلّ مكان. الاحتلال فقد السيطرة، الإعلام يفضح ويعرّي ما يسمّى بديمقراطية الاحتلال، جنود بعربات مصفحة يواجهون أطفالاً مسلحين فقط بالإرادة والحجارة ومصمّمين على نيل حريتهم واستقلالهم، الاحتلال يحظر على وسائل الإعلام تغطية فعاليات الانتفاضة من أجل محاصرة لهيبها المشتعل.

سعى شعبنا الفلسطيني من خلال هذه الانتفاضة الشعبية لتحقيق حلمه بنيل حريته واستقلاله، ونقل شعار الدولة الفلسطينية من الإمكانية التاريخية الى الإمكانية الواقعية، وكذلك إلى إطلاق سراح كلّ أسرانا في سجون الاحتلال فلسطينيين وعرباً، ووقف «تغوّل» المحتلّ على المواطنين والتجار الفلسطينيين عبر فرضه الضرائب الباهظة عليهم، ولعلّ الخلاف في الاجتهادات السياسية، أحدث حالة من البلبلة والإرباك في القيادة الفلسطينية، فهناك من رأى بأن لا بدّ من الاستثمار السياسي لهذه الانتفاضة الشعبية، استثمار سياسي متسرّع، قادتنا الى دهاليز مؤتمر مدريد، ومنذ اتفاق المبادئ، اتفاق أوسلو في أيلول 1994، الذي رأى فيه البعض ممراً إجبارياً، ونحن ندفع ثمن ذلك المزيد من التفكك على المستوى الوطني والمجتمعي، ناهيك عما فعله هذا الاتفاق، من تقسيم للأرض الفلسطينية الى معازل و«غيتوات» مغلقة، وليستمرّ النزف الفلسطيني ويتصاعد، نحو الانقسام المدمّر المتواصل، والذي يفعل فعله في الجسد الفلسطيني كالسرطان، وليضيف لحالة الضعف الفلسطيني ضعفاً آخر، وليستغلّ الاحتلال حالة الضعف الفلسطينية هذه، ودخول الحالة العربية في حروب التدمير الذاتي والحروب المذهبية والطائفية، وانتقال العديد منها لتطبيع علاقاتها مع المحتلّ على أكثر من صعيد ومستوى، ولتصل حدّ التنسيق والتعاون العلني، وحرف بوصلة الصراع من خلال محاولة الترويج لمقولة إنّ دولة الاحتلال «إسرائيل» ليست الخطر المباشر على أمننا القومي ووجودنا، بل إنّ إيران هي المصدر المزعوم لهذا الخطر…!

إذن… عوامل ضعفنا وانقسامنا شجّعت حكومة العدو على الإيغال في التطرف، والسعي إلى تكريس المزيد من الوقائع والحقائق بالقوة على الأرض، عبر «تسونامي» استيطاني يلتهم مدينة القدس، ويسرّع في تهويدها وأسرلتها، وكذلك تكثيف الاستيطان وتصعيده في الضفة الغربية لخلق دولة للمستوطنين فيها، تمهيداً لضمّها لدولة الاحتلال، كما يخطط لذلك أقطاب اليمين الصهيوني المتطرف نتنياهو نفتالي وليبرمان.

بعد تسعة وعشرين عاماً على انتفاضة الحجر التي فشلنا فيها في نقل شعار الدولة الفلسطينية من الإمكانية التاريخية الى الإمكانية الواقعية، واضح بأنّ حلمنا في تحقيق ذلك يتباعد، حيث الحالة الفلسطينية الضعيفة والمنقسمة على ذاتها سببٌ مباشر في ذلك، وكذلك قياداتنا بكلّ ألوان طيفها ليست على مستوى التحديات والمسؤوليات، تغلّب مصالحها ومكتسباتها وامتيازاتها الفئوية والحزبية على المصالح العليا للشعب الفلسطيني، والحلّ تدركه جيداً كلّ قوانا وفصائلنا، ولكنها لا تعمل على ترجمته فعلاً على أرض الواقع، وهو أن لا انتصار بدون إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على اساس برنامج سياسي واضح واستراتيجية نضالية موحدة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى